وهذه قصة تدلُّك كيف أن هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله وهو القرآن الكريم، كيف أن له تأثيراً عجيباً حتى على الكفار: أثر القرآن في النفوس غريب! وفعله في القلوب عجيب! والأعجب والأغرب -وإن كان لا عجب ولا غرابة؛ فالقرآن كلام الله- أن يثير القرآن مشاعر امرأة أعجمية! ويجعل عينيها تفيضان بالدمع، وهي لا تعرف من العربية شيئاً!! يحكي الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى تلك الحكاية التي عاشها على ظهر سفينة تتجه به إلى أمريكا.
يقول رحمه الله: كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية، تَمْخُرُ بنا عُباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، وقد سمح ووافق قائد السفينة الكافر على إقامة الصلاة، وسمح لبحَّارة السفينة وطهاتها وخدمها أن يصلوا معنا -ممن لا يكون منهم في وقت العمل- وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر هذه السفينة.
وقمت -يقول رحمه الله- بخطبة الجمعة، وإقامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا.
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح القُدَّاس، فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا (قُدَّاس)، فشرحنا لهم الحال، وأنه لا يُسَمَّى قُدَّاساً، وإنما هي صلاة الجمعة؛ ولكن امرأة من بين ذلك الحشد عَرَفْنا فيما بعد أنها أوروبية، كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها، جاءت لتسألنا عن شيء معين، وهي تبدي إعجابها بما فعلنا من نظام وخشوع.
وليس هذا موضع الشاهد.
جاءت لتسأل عن شيء معين وهي تقول: أي لغةٍ هذه التي كان يتحدث بها قِسِّيْسُكم؟ وهي لا تتصور أن يقيم مثل هذا إلا قِسِّيْس، فصحَّحنا لها هذا الفهم وأجبناها.
قالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع عجيب، وإن كنت لم أفهم منها شيئاً! ثم كان المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن ليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه! إن الموضوع الذي لفت انتباهي وأثر في حسي، وانطبع في قلبي هو: أن الإمام -بعد أن تصَحَّحَت الكلمة، وصُحِّحَت- كانت ترد في أثناء كلامه فقرات من نوعٍ آخرٍ، يختلف عن بقية كلامه، نوعٌ أكثر عمقاً، وأشد إيقاعاً في النفس، إن هذه الفقرات التي كان يقولها أثناء الخطبة أحدثت في نفسي قشعريرة ورعشة، إنها شيء آخر.
وتَفَكَّرنا قليلاً، ثم أدركنا ماذا تعني، إنها تعني الآيات القرآنية التي وَرَدَت في أثناء خطبة الجمعة وأثناء الصلاة، وكانت مع ذلك مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من امرأة أعجمية لا تفهم شيئاً من اللسان العربي.
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14].
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77 - 80].
هذا القرآن سببٌ عظيمٌ جداً لإدخال كثير من الكفرة في الإسلام، وحتى الآن يُقَدَّم لهم القرآن المترجم، فيكون سبباً في دخولهم في الدين.
أليس هذا دليلاً -أيها الإخوة- على أن هذا الدين باقٍ، وعلى أنه يملك في طياته مقومات بقائه وجذب الناس إليه.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واجعلنا من الدعاة إلى سبيلك القويم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.