تاسعها: ذكر في الحديث من الأشراط الكبيرة قوله: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها)، هذا الشرط: (طلوع الشمس من مغربها) هو من الآيات الكبيرة، وعندنا آيات تدل على قرب قيام الساعة، وآيات تدل على حصول الساعة، فمن الآيات العشر الكبيرة التي تدل على قرب قيام الساعة جداً: خروج الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، فخروج الدجال ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف هذه من الآيات العشر الكبيرة التي إذا حصلت تدل على أن الساعة على وشك القيام.
أما الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس، فهذا معناه أن الساعة قد ابتدأت بالقيام فعلاً.
(إذا طلعت الشمس من مغربها فرآها الناس آمنوا أجمعون)، وفي رواية: (آمن من عليها)، أي: من على الأرض كلهم، قال: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانُها)، من الذي لا ينتفع؟ الكافر؛ لأن المؤمن أصلاً مؤمن، أما الكافر الذي لم يكن مؤمناً قبل طلوع الشمس، فإنه لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من مغربها.
ويكون مثله مثل من وصلت روحه إلى الحلقوم عند الغرغرة لا يفيده شيئاً، وكذلك مثله مثل نزول العذاب بالكفار: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85].
فإذاً هناك حالات لا ينفع فيها الإيمان: إذا بلغت الروح الحلقوم، وإذا طلعت الشمس من مغربها، وإذا نزل عذاب الله بالكفار انتقاماً وبطشاً كما نزل بقوم ثمود وفرعون وغيرهم.
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام:158] قوله: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فسرها جمهور العلماء: بطلوع الشمس من مغربها، وأما بالنسبة لما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رفعه، قال: (ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) كيف يفهم هذا الحديث؟ لعل هذه الثلاث تكون متتابعة؛ لأن مدة ملك الدجال هو إلى أن يقتله عيسى، فالدجال يخرج ويمكث في الأرض إلى أن يقتله عيسى، ثم لبث عيسى في الأرض وخروج يأجوج ومأجوج أمران متواليان؛ لأن يأجوج ومأجوج يخرجون في عهد عيسى، وعيسى ينزل والدجال موجود، ويأجوج ومأجوج يخرجون وعيسى موجود.
والذي يترجح والله أعلم أن هذه الثلاثة قبل طلوع الشمس من مغربها، فذكر ابن حجر رحمه الله في الجمع بين الأحاديث قال: فالذي يترجح من مجموع الأخبار: أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، فسيأتي وقت تتغير فيه معظم الأحوال في الأرض.
بداية التغير في الأرض تكون بخروج الدجال، وبعده عيسى، وبعده يأجوج ومأجوج، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم عليه السلام، ويدفنه المسلمون ويصلون عليه.
وأما طلوع الشمس من مغربها، فهو أول الآيات العظيمة المؤذنة بتغير العالم العلوي؛ لأنه سيحدث تغير في الأرض تحت، وسيحدث تغير فوق في العالم العلوي، فبداية التغيرات العظيمة في العالم الأرضي: خروج الدجال، وبداية التغيرات العظيمة في العالم العلوي سيكون طلوع الشمس من مغربها، وستنتهي العملية بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، ولذلك جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب).
أول الآيات طلوع الشمس من مغربها: إذاً الأولوية هذه بالنسبة لتغير العالم العلوي، وسيكون طلوع الشمس من مغربها متوافقاً مع خروج الدابة التي تختم على الناس المسلم والكافر ختماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحىً، فأيهما خرج قبل الأخرى فالأخرى منها قريب).
والذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، لأنه إذا طلعت الشمس من مغربها أقفل باب التوبة، فإذا أقفل باب التوبة استقرت أحوال أهل الأرض على ما هم عليه إيماناً وكفراً، فتخرج الدابة حينئذ لتميز المؤمنين عن الكفار بالختم على وجوههم، تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، لما أغلق باب التوبة ما عاد ينفع الآن أي تغير من الكفر إلى الإسلام، فالدابة تخرج لتسم الموجودين وتطبع عليهم، مؤمن كافر وهكذا، فيكون الختم هذا ظاهراً من قبل الدابة العظيمة التي تخرج ظاهراً على وجوه الناس في ذلك الزمان، والكافر لا ينفعه إيمانه، وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ما لم يكن قد تاب من قبل، بل يختم على عمل كل إنسان بالحالة التي هو عليها.
فإذا بدأ التغير في العالم العلوي وهو طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك كل الناس سيخافون ورغم عنهم سيؤمنون، ولكن الإيمان لم يعد بنافعهم في ذلك الوقت؛ لأنه ارتفع الإيمان بالغيب، والأمور العظيمة بدأت في الوقوع، مثل الإنسان إذا نزعت روحه ووصلت الحلقوم، وتعاين الملائكة، وعرف أن المسألة حق، والموت حق، والجنة والنار حق، وعرف أن الدنيا فانية لكن بعد فوات الأوان.
إذاً: إذا بلغت الروح الحلقوم ما عادت تنفع التوبة؛ لأنه ظهر عالم الغيب وانكشف الغيب المستور، وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انكشف الغيب المستور، وبدأ عالم الغيب يتجلى، فعند ذلك لا ينفعه إيمان ولا تنفعه توبة.
فتوبة من شاهد ذلك الأمر مردودة، ولا يعني طلوع الشمس من مغربها انتهاء كل شيء في تلك اللحظة، فربما تعود الشمس والقمر يكتسبان ضوءاً، ويطلعان ويغربان كما كانا من قبل، إلى أن يأذن الله بكسوفهما بالكلية، وتنكسف الشمس والقمر والنجوم، وتتصادم الكواكب وتأفل النجوم، وتتشقق السماء وتنهار المخلوقات على بعضها، فربما يكون هناك وقت في آخر الزمان إلى أن ينفخ في الصور.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في توالي الآيات: بأن الناس سيعيشون حالات من الرعب والفزع، لأن الأحداث تتوالى بشكل مذهل، فقال صلى الله عليه وسلم: (الآيات خرزات منظومات في سلك؛ إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضاً)، خذ مسبحة واقطع السلك، كيف يحدث للحبات؟ تتوالى وراء بعض، لا يوجد فرصة بين الحبة والتي تليها، فكما يكون التوالي في خروجها من السلك تكون الآيات متوالية، والناس لا يأخذون نفساً، ولا يتراجع إليهم النفس أو يهدأ روعهم أو يرجع إليهم عقلهم وتفكيرهم؛ لأن المسائل تتوالى، وأشياء فوق التخيل وفوق الوصف، ولذلك فلا يكون هناك وقت لأن يتدارك الإنسان أمره (بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحدةٌ توالت).
وعن أبي العالية: (بين أول الآيات تتابع كتتابع الخرزات في النظام)، وهو الخيط، وفي آخر الزمن سيمضي الوقت بسرعة شديدة -كما ذكرنا- الوقت يتسارع والأحداث تتسارع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر)، السنة في الطول تكون كالشهر، (واليوم كاحتراق السعفة) أي: يكون مرور اليوم سريعاً جداً كاحتراق السعفة، فهي أربع وعشرين ساعة لكن المرور سريع، ونزع البركة كما قلنا قبل ذلك.
وقلنا: أول الآيات الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من المغرب يكون بعد ذلك؛ لأن نزول عيسى سيكون فيه إسلام أناس كفار، ولا يبقى في الأرض كافر مطلقاً إما قتل وإما إسلام، والجزية لا تؤخذ ولا تقبل، هذا من خصائص عهد عيسى عليه السلام، لا تقبل الجزية من الكتابيين، وإنما إما إسلام وإما قتل، فهناك سينتفع ناس بالإسلام على يد عيسى عليه السلام.
فمعنى ذلك أن طلوع الشمس من مغربها سيكون بعد عيسى عليه السلام، ومن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه، فالذي يتوب بعدها لا يتوب الله عليه، فلا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل، فهذا بالنسبة لمسألة انتهاء مصائر الناس في الإيمان والكفر، بطلوع الشمس من مغربها.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التوبة وقال: (لا تقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، (التوبة مفروضة قبل أن تطلع الشمس من مغربها) (إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين سنة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه)، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (فإذا طلعت الشمس من مغربها رد مصراعا الباب، فيلتئم ما بينهما فتغلق) يغلق باب التوبة بالكلية.
والشمس طلوعها من مغربها الذي ورد في الحديث يكون بناءً على أمر من الله عز وجل، ومنعٍ منه سبحانه وتعالى، فإن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، هكذا جاء في الحديث، وإن كنا نحن لا نراها تسجد ولا نراها تسلم، ولكن هذا ما يحدث، لأنه من عالم الغيب الذي لا ندركه: (إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت، واستأذنت في الطلوع من المشرق فيؤذن لها، حتى إذا كانت ذات ليلة -التي نتحدث عنها الآن- فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله تعالى، ثم يقال لها: اطلعي من حيث غربتي، قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل).
وورد في بعض الآثار والله أعلم بصحتها: أنه يطول ليل المتهجدين، ويستغرب الناس من طول الليل، وأن الشمس ما طلعت، وأن ذلك يكون قدر ثلاث ليال ونحوه، وأن الجار ينادي جاره: يا فلان! ما شأن الليلة، لقد نمت حتى شبعت، وصليت حتى أعييت؟! فيفاجئون بأن الشمس قد طلعت من مغربها.
وقد جاء عن يزيد بن شريح وكثير بن مرة: أنه إذا طلعت الشمس يطبع على القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة ألا يكتبوا عملاً، وهذا الكلام يؤيده حديث عائشة عنها موقوفاً، والحديث هذا وإن كان موقوفاً على عائشة