عاشراً: إن هذه التربية مهمة، بل في غاية الأهمية؛ لأنها توجه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح، فإن في كل نفس خطوطاً متقابلة، وأشياء متشابهة، مشاعر وأحاسيس، ومن ذلك مثلاً: الكره من الذي لا يكره؟ لا بد أن يكره كل أحد، فالكره موجود في النفس، والبغض موجود فيها، ولكن الإسلام يوجه هذا الكره ليكون كرهاً شرعياً، لا كرهاً مدمراً لا كرهاً سيئاً لا كرهاً مخالفاً للدين، فمثلاً: يوجه المسلم لأن يكره الشيطان وأتباعه، والكفر والكفرة، وكره ما كرهه الشرع وهكذا، (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) يكره ما كرهه الله لنا، ومما كرهه: (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) فيفرغ الإسلام طاقة الكره عند المسلم في المسلك الصحيح، فلا يتحول الكره إلى طاقة سامة مبعثرة، وخذ مثلاً: الحب، من الذي لا يحب؟ لا أحد، كل إنسان فيه طاقة للمحبة، ولكن الإسلام بالتربية يوجه هذا الخلق والطبع توجيهاً حسناً، فحب الله، وحب الخير، وحب الإيمان وأهله، وحب الرسل وأتباعهم، وحب شعب الإيمان، وما يحبه الله من الأقوال والأعمال، وعندما يسمع المؤمن في الأحاديث الصحيحة أن الله يحب الرفق، وأن الله يحب الجود، وأن الله يحب الكرماء، وأن الله يحب الإحسان، وأن الله يحب الوتر، وأن الله يحب إتقان العمل، وأن الله يحب العبد التقي الخفي النقي، وأن الله يحب الرجل سمح البيع سمح الشراء، وأن الله يحب هذه الخصال، فتنصرف نفسه لمحبتها؛ لأن الإسلام يدفعه بالتربية إلى صرف المحبة لمثل هذه الأشياء، يحب التيامن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن، ولا يحب العقوق، ولا الفاحش، ولا الفحش، ولا المتفحشين، وهكذا (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله إلخ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحب الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجلٌ حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يبغضه) فتباً لهؤلاء المبتدعة الذين كفروا الأنصار والصحابة والمهاجرين، ما أبغضهم إلى الله عز وجل! وهذه التربية التي توجه المحبة إلى الطرق الصحيحة والمسالك الشرعية، فإنها تجنب المسلم طاقاتٍ مدمرة، فقد يحب الإنسان نفسه وذاته فيكون أنانياً، أو يتحول إلى حب معشوقاتٍ صغيرة في عالم الحس من المطعومات والمشروبات واللذائذ، فيعكف عليها ولا يتعداها فيهلك، ومنهم من يقع حبه في عشق الصور من النساء والمردان، فطالما يتذكره في مخيلته، وطالما يراه في منامه، ويكون ذكره له أحب إليه من ذكر الله عز وجل، ويكون لقاؤه به أحب إليه من لقاء أعلم العلماء، وأزهد الزهاد، وأعبد العباد وهكذا.
فتأمل! أن هذه التربية تنقي النفس فعلاً من هذه الأمور، وتسلك بالمحبة مسلكاً شرعياً يهذب النفس ويجنبها الويلات.
وتأمل في هذا الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قصته كيف كان يكره قبل الإسلام، وماذا صار يحب بعد الإسلام تأمل كيف رباه الإسلام تربيةً جعل حاسته في الكره والمحبة تنتقل انتقالاً بشكلٍ شرعي إلى ما يجب أن يحب! عن أبي شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني قد كنت على أطباقٍ ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إليَّ من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته -في الجاهلية- فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي -وذكر قصة، إلى أن قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، بعد الإسلام ماذا حصل؟ بعدما رأى وما رأى؟ - وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت؛ لأني لم أكن أملئ عيني منه، لو مت على تلك الحال رجوت أن أكون من أهل الجنة.
فهذا الرجل الذي فعلت فيه التربية هذا المفعول، والذي حوَّلت كرهه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتله إلى محبةٍ لا يستطيع أن يثبت بصره على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتأمل هذا الحديث: ما فعله في النفس وفي توجيه المشاعر؟ إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله ومنه ما يبغض الله؛ فأما الغيرة التي يحبها الله، فالغيرة في الريبة؛ إذا صارت القرائن موجودة في الريبة فلا بد من الغيرة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة، وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل في القتال، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فاختيال الرجل في البغي والفخر.
إذاً: هذه التربية الإسلامية هي التي تحول مشاعر الفخر والخيلاء تحول مشاعر الغيرة لتسلك الطريق الشرعي الصحيح.