وصية لطالب العلم

ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله في وصيته في اتجاه السؤال الذي سأله السائل عن قضية الكتب قائلاً: (وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا باب واسع، وهو أيضاً يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد).

لأن المذاهب موزعة في البلاد، هناك بلاد -مثلاً- أكثر ما يمشون عليه المذهب الحنبلي، وبعضها الحنفي، وبعضها الشافعي، والمالكي في المغرب كذا، فالمسألة أو القضية الآن تختلف باختلاف أين ينشأ الإنسان؟ قال: (تختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير، أن يستعين بالله سبحانه في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً).

إذن يا إخوان يا طلبة العلم هذه الوصية لـ شيخ الإسلام في منهج طالب العلم أنه مهما تفقه على أي كتاب وعلى أي مذهب، أو على أي شيخ، يجب أن يكون عنده حرص خاص واهتمام بالغ وعناية زائدة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو العلم، حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يُسمى علماً، وما سواه أي غير القرآن والسنة:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين

فإذن أن يكون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يغنيك ولتكن الهمة فهم مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وسائر كلامه.

فضع يا طالب العلم في نصب عينيك وفي ذهنك هذا الأمر: ما هو مقصود الشارع في كل أمر ونهي وفي كل تشريع، تجد مقصود الشارع هو هذا التفقه أما الحفظ فقد يحفظ أي أحد، لكن ماذا وراء الأمر وماذا وراء النهي وماذا قصد الشارع، هذا هو العلم والفقه.

قال: (فإذا اطمأن قلبك أن هذا هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنه) خذ القول الموافق لأن يكون هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقوال العلماء في الأحكام كثيرة جداً، خذ القول الذي تعتقد أنه موافق لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

(فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجتهد -وهذه وصية ثانية لطالب العلم- أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدْعُ بما رواه مسلم) إذاً: بعد قضية ما تيسر لك من التفقيه على أي مدرسة أو شيخ أو مذهب على حسب البلد التي أنت موجود فيها، تتوجه همتك نحو: أولاً: السنة.

ثانياً: معرفة مقصد الشارع.

ثالثاً: أن يكون في كل مسألة عندك دليل تحفظه، تعتصم في كل باب بأصل مأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون عندك في كل مسألة دليل مهم تحفظه، وأصل ترجع إليه، قوة وحجة وبيان وبرهان، فلو قال لك واحد: هاتوا برهانكم، تقول: خذ، ائتوني بأثارة من هذا؟ خذ هذا الدليل.

رابعاً: إذا اشتبه عليك، فقد يحرص ويجتهد ويتعب ولكن لا يخرج بنتيجة نهائية واضحة في الموضوع، ولا يدري هذا أم هذا، فماذا تقول، وماذا تفعل؟ قال: (فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب الشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

فإذاً الدعاء أن يوفقك الله، إذا كان هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي يقوم ويصلي في الليل ويدعو: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فما بالك بنا حيث نحن أدنى منه ونحتاج إلى هذا الطلب والدعاء دائماً، وكثير من المسائل خلافية، التي يحتار الإنسان فيها: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).

أما وصف الكتب والمصنفين، فقد ذكرنا ذلك في مناسبات كثيرة من أفضل الكتب: (وما في الكتب المصنفة المبوبة أنفع من صحيح محمد بن إسماعيل البخاري) هذا أنفع كتاب في السنة، فإذاً طالب العلم إذا أراد أن يدرس السنة أول شيء يتوجه إليه أو أهم شيء في هذا الموضوع، صحيح محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث، قال: (لكنه وحده لا يقوم بأصول العلم) فليس كل العلوم في صحيح البخاري، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لا بد من معرفة: أولاً: أحاديث أخر.

ثانياً: كلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء، فهناك أقوال تحتاج فيها إلى أقوال علماء لا تجدها في صحيح البخاري، وأحاديث أخرى لا تجدها في صحيح البخاري، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فمن نور الله قلبه وهداه بما يبلغه من ذلك بلغه، ومن أعماه لن تزيده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً).

إذاً: المسألة ليست بكبر المكتبة التي عندك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن لبيد الأنصاري: (أوليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟) وهذا حديث صحيح الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام لما نظر إلى السماء مرة قال: (هذا أوان رفع العلم، قال رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأحسبك أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيدهم من كتاب الله) يقول: كان عندهم التوراة الحقيقية وعندهم الإنجيل الحقيقي، فحرفوه وضلوا.

ثم ختم وصيته بهذا الدعاء فقال: (فنسأل الله العظيم، أن يرزقنا الهدى والسداد ويلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين وصلواته على أشرف المرسلين).

ثم ذكر بعد ذلك الذين سمعوا هذه الوصية منه عدد من الأئمة في هذا المجلس بقراءة القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي على ابن تيمية في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر سنة (697هـ) بدار الحديث بالقصاعين بـ دمشق.

والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015