بعد أن قال: (فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره) -يقول وإذا لم نتمكن أن نعطي جواباً مفصلاً في هذه المسألة، لأن الناس يتفاوتون، لكن هناك شيء معين يمكن أن يشترك فيه الجميع، بالإضافة لقيام كل واحد بما يحسنه، فما هو هذا الشيء؟ قال: (إن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما يشغل العبد به نفسه في الجملة).
وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! من المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وهذا حديث صحيح والمفردون: هم المنفردون الذين هلك أقرانهم وبقوا هم، والمقصود أنهم بقوا يذكرون الله سبحانه وتعالى.
وكذلك حديث أبي داود: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم -هذا يقتضي التفضيل- وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) حديث صحيح بطرقه.
وكلمة (ذكر الله) ماذا تعني؟ قال: (أقل ذلك-أي: أقل مرتبة في ذكر الله- أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين، كأذكار طرفي النهار، وعند المضجع، والاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة في الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وعند العطاس وعند المطر وعند الرعد وعند المصيبة وغير ذلك من المناسبات) وهذه هي التي صُنفت لها كتب بعنوان: عمل اليوم والليلة، فإذا رأيت عالماً كتب كتاباً بعنوان: عمل اليوم والليلة فاعلم أن هذا موضوعه.
فهذه الأذكار المقيدة بمناسبات وأوقات، وهناك الأذكار المطلقة، وأفضل شيء في الأذكار المطلقة (لا إله إلا الله) وأذكار أخرى وردت مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
فالآن كلمة (ذكر الله) -حتى لا يتصور الواحد أنها محصورة في هذه الجمل- أشار رحمه الله إلى أن كلمة (ذكر الله) تشمل إلى جانب الأشياء اللسانية التي تكون فاضلة جداً إذا تصورها القلب، فبعض الناس تجده بعد الصلاة فقط لسانه وأصابعه تشتغل وعقله في مكان ونظره على الناس، ويظن أنه الآن يقوم بأفضل الأعمال، لا، هذا قلب غافل لاه، فإذا كان اشتغال اللسان مع موافقة القلب، هذا من هذه الجهات، لكن ذكر الله أشمل وأعم من قضية الأذكار التي هي باللسان.
قال: (فإن ذكر الله يشمل كل ما يقربه من الله، من تعلم العلم وتعليمه) مثل جلوسنا للعلم إذا أخلصنا فيه النية، هو من ذكر الله الذي هو أفضل من كل شيء ومن أفضل الأعمال، قال: (تعلم العلم وتعليمه، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، هذا من ذكر الله) ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه، الذي سماه الله ورسوله فقهاً، ليس فقط الفقه الحلال والحرام، الفقه الأكبر، الإخلاص وما يتعلق به، فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله، وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف، فعندما يقول الأفضل كذا وأفضل الأشياء كذا، فإذا نظرت لها في النهاية تجد أن ذكر الله يجمعها، فلا تعارض إذاً.
وهذا الذي كان يُشير إليه ويُدندن حوله في عدد من كتبه رحمه الله في قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، وأن هذا كله في قضية اختلاف التنوع الذي هو في الحقيقة لا تعارض فيه ولا تصادم.
نظراً لأن الناس قد يجهلون ما هو الأصلح لهم، وليس كل شخص يدرك ما هو الأفضل بالنسبة في حقه، وقد لا يعرف الشخص دائماً كل قدراته، ولا يدري إذا ضرب بسهم في هذا المجال أفضل أو في هذا المجال أفضل، هل يتوجه إلى هذا العمل أفضل، أو إلى هذا العمل أفضل.
نظراً لأنه ستعترض الشخص أشياء من الإشكالات لأجل عدم قدرته على الإحاطة بالظروف الموجودة، وعدم معرفة الغيب طبعاً، وماذا سيئول إليه حاله لو اشتغل بالتعليم أو بالجهاد أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك.
نظراً لهذا أشار رحمه الله إلى أهمية أنه لو وقع أحد في مثل هذا الظرف ما هو المهم بالنسبة له أن يعمل؟ الاستخارة! قال: (وما اشتبه أمره عليه فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار الله تعالى، وليُكثر من ذلك ومن الدعاء؛ فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحرَّ الأوقات الفاضلة كآخر الليل وأدبار الصلوات وعند الأذان ووقت نزول المطر وغير ذلك).
هذا حتى يدعو الله أن يوجهه إلى أحسن وجهة وأحسن شيء يستغل فيه نشاطه ووقته ويستفيد ويفيد.