ومن الأشياء التي تصد عن الحق: أن يعتقد الشخص أن الحق يحول بينه وبين جاهه وعزه، فيرفض الحق لأجل هذا، ومثاله: فقدان المنصب، أو فقدان الرآسة، كما وقع في حديث البخاري في كتاب بدأ الوحي، في حديث طويل نقتطف منه هذا المقطع حيث وصل خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وتباحث مع صاحب له يوازيه في العلم، حتى تأكد أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاول إقناع قومه، فالمسألة أثرت في نفسه: فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له في حمص، ثم أمر بأبوابها فأغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش لشدة نفرتهم إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان -سواء إيمانه هو أو إيمانهم هم- قال: ردوهم إليَّ.
لأنه الآن يحاول فيهم، ولكن لما رأى أنهم قد نفروا وأنهم سينقلبون عليه الآن، وينتهي الملك ببساطة، وقد يقتلونه قال: ردوهم علي، وقال لهم الأسلوب الخبيث: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت! فسجدوا له ورضوا عنه، وكان ذلك آخر شأن هرقل، والحديث في البخاري.
فانظر إلى هذا الرجل كيف اقتنع بالحق، فحاول أن يقنع به الناس، فلما انقلبوا عليه خشي على ملكه، فقال: أنما كنت أريد أن أختبر شدتكم، وقد رأيت ما يسرني.
من الأمثلة كذلك في فقد الملك حين يحدث فيسبب لصاحبه الذي فقده عداوة للحق ما بقي من حياته: في صحيح مسلم، في حديث عبد الله بن أبي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء يدعوه: لا تغبروا علينا، ثم قال: إن كان ما تقول حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، ثم قال عليه السلام لـ سعد بن عبادة: أي سعد! ألا تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي - قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله! واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة، أي: المدينة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، ويجعلوه ملكاً عليهم، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك هو، شرق بذلك -غص- فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وما حمل عبد الله بن أبي على كل المواقف التي تعرفونها من الدعوة إلا أنه كان سيصبح ملكاً، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانتزع منه ذلك، فانقلب رأساً للنفاق.
وكذلك بعض الناس يرفضون الحق لأنه يجردهم من مزايا مادية، أو من أموال لهم، مثلاً: بعض التجار أموالهم أموال ربا، فيرفض الحق في هذه المسألة؛ لأنه يرى بأن أمواله ستذهب، وأن كثيراً من امتيازاته المادية ستذهب؛ لأنها حرام، فلذلك يرفض الحق.
بعض الناس يقبلون الحق إذا كان في مصلحتهم، وإذا كان في غير مصلحتهم لا يقبلونه، مثل المنافقين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] وإذا ما كان لهم الحق رفضوا.