افتراءات على ابن المديني في قضية خلق القرآن

لكن الذي حصل أنه قد افتُريَت عليه أخبار.

فمن القصص التي افتريت عليه: قيل: إنه دخل عليه أحد تلاميذه يوماً، فرآه واجماً مغموماً، فقال: ما شأنك؟ قال: رؤيا رأيتها؟ قال: قلت: وما هي؟ قال: رأيت كأني أخطب على منبر داوُد عليه السلام.

قال: فقلت: خيراً، رأيتَ أنك تخطب على منبر نبي.

قال: لو رأيت كأني أخطب على منبر أيوب، كان خيراً لي؛ لأن أيوب بلي في بدنه وداوُد فتن في دينه، وأخشى أن أفتتن في ديني، فكان منه ما كان.

قال الخطيب البغدادي: أي: أنه أجاب لَمَّا امتُحِن إلى القول بخلق القرآن.

ولكن هذه الرواية يقول أهل العلم في رجالها: إن العنبري هذا ناقل القصة وكنيته: أبو عبد الله غلام خليل ضعيفٌ بالاتفاق.

قال الذهبي بعد حكاية القصة: غلام خليل غير ثقة.

وقال فيه أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد.

وقال الدارقطني: متروك.

وقال فيه مرة أخرى: يضع الحديث.

إذاً: هذه حكاية مُطَّرَحة باطلة لا يُعَوَّل عليها.

ثم قد افتُرِيَت عليه قصة أخرى أيضاً: فجاء عن الحسين بن فهم عن أبيه: قال ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين! هذا -أي: أحمد بن حنبل - يزعم أن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحَدُّ.

فقال له المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن أبي دؤاد -ما عنده إلا عقليات، العين لا تقع إلا على محدود، والله لا يُحد! وهذا حتى في العقليات باطل.

فالآن نحن إذا نظرنا إلى السماء، نراها لكننا لا نحيط بها، هل يمكن أن يقول أحد: لا نراها، لأننا لا نحس بها؟ لا.

هل هناك منافاة بين الإحاطة والرؤيا؟ لا.

يمكن أن ترى الشيء وأنت لا تحيط به، فـ ابن أبي دؤاد ما عنده إلا عقليات فاسدة- يقول: إن هذا -أي: الإمام أحمد - إن الله تعالى يُرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود, والله تعالى لا يُحد.

فقال المعتصم للإمام أحمد: ما عندك في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين! عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر، فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر، لا تُضامُون في رؤيته) فأتى الإمام أحمد بالدليل الصريح على هذا.

ما أتينا بعدُ إلى موضع الشاهد من القصة المفتراة.

فقال المعتصم لـ أحمد بن أبي دؤاد: ما عندك في هذا؟ قال: انظر في إسناد هذا الحديث، يقول: لا بد أن نراجع الإسناد.

ماذا فعل ابن أبي دؤاد -حسب القصة هذه-؟! وجَّه إلى علي بن المديني، وهو في بغداد مُمَلَّق -أي: فقير لا يقدر على درهم- فأحضره، فلما كلمه حتى أعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: هذه من أمير المؤمنين وأن تُدْفَع إليه أرزاقه المقطوعة سابقاً رزق سنتين.

ثم قال له: يا أبا حسن - ابن أبي دؤاد يقول لـ علي بن المديني، الخبير بـ العلل - يا أبا حسن! حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ قال: صحيح.

قال: فهل عندك فيه شيء؟ قال: يعفيني القاضي من هذا.

قال: يا أبا حسن! هذه حاجة الدهر.

ثم أمر له بثيابٍ وطيب ومركب بسرجه ولجامه، ولم يزل حتى قال له: في هذا الإسناد مَن لا يعوَّل عليه ولا على ما يرويه، وهو: قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه.

فقبَّل ابن أبي دؤاد ابن المديني واعتنقه.

فلما كان الغد وحضروا، قال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين! -يحتج في الرؤية بحديث جرير - وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوَّال على عَقِبَيه.

هذه القصة التي ذُكِرَ بعد ذلك في تكملة القصة أن الإمام أحمد قال: هذا مما عمله ابن المديني، هذه القصة باطلة النسبةِ إلى ابن المديني وكَذِبٌ عليه وافتراء.

يقول الخطيب البغدادي في القصة السابقة من الخبراء بثبوت القصص، ولذلك لما أظهر اليهود في حياة الخطيب البغدادي خطاباً أو رسالة، قالوا: هذه من محمد بن عبد الله -النبي صلى الله عليه وسلم- يضع عنا الجزية، وجاءوا إلى الخليفة، قالوا: لا تأخذ منا الجزية، أن الجزية موضوعة عنا وهذا إثبات ذلك، نبيكم أعطانا صكاً بوضع الجزية، فعرضه الخليفة على العلماء، فوصل إلى الخطيب، فقال: مزور.

قال: وما دليلك؟ قال: فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم في الفتح، والصك هذا من أيام خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات في الخندق قبل خيبر.

فـ الخطيب رحمه الله كان ذكياً وخبيراً بموضوع القصص.

قال الخطيب البغدادي في هذه القصة: أما ما حُكِي عن علي بن المديني في هذا الخبر أن قيس بن أبي حازم لا يُعْمَل على ما يرويه لكونه أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، فهو باطلٌ، وقد نزه الله علياً -أي: ابن المديني - عن قول ذلك؛ لأن أهل الأثر -وفيهم علي - مجمعون على الاحتجاج برواية قيس بن أبي حازم وتصحيحها؛ إذ كان من كبراء تابعي أهل الكوفة، وليس في التابعين من أدرك العشرة المقدمين -أي: العشرة المبشرين بالجنة- وروى عنهم غير قيسٍ، مع روايته عن خلق من الصحابة سوى العشرة، ولم يَحْكِ أحدٌ ممن ساق خبر محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه نوظر في حديث الرؤية.

يقول الخطيب البغدادي: فإن كان هذا الخبر المحكي عن ابن فهم -الراوي للقصة- محفوظاً فأحسب أن ابن أبي دؤاد تكلم في قيس بن أبي حازم بما ذكر في الحديث، وعزا ذلك إلى ابن المديني، أي: ألصقها بـ ابن المديني وابن المديني منها بريء، والله أعلم.

واستبعد أيضاً تاج الدين السبكي هذه القصة، فقال: وما حُكِي من أنه علل حديث الرؤيا بسؤال القاضي أحمد بن أبي دؤاد له، وقال: هذه حاجة الدهر، وأن علياً قال: فيه من لا يعوَّل عليه وهو قيس بن أبي حازم، إنما كان أعرابياً بوَّالاً على عَقِبَيه، وأن ابن أبي دؤاد قال لـ أحمد كذا والرد عليه، وأن ابن حنبل قال: علمتُ هذا من عمل ابن المديني، فهو أثرٌ لا يصح.

فالمهم: أن العلماء بيَّنوا براءة علي بن المديني من هذه الفرية، وأن علي بن المديني أورع وأعظم وأرفع من أن يطعن في راوٍ متفق على أنه ثقة من أجل بغلة بسرجها ولجامها وبعض النقود، لا يمكن، فـ ابن المديني أورع من أن يفعل هذا.

ومما يدل على ذلك أيضاً: أن ابن المديني له كتاب اسمه العلل، عندما جاء على ذكر قيس بن أبي حازم، توسع ابن المديني في الكلام عنه جدِّاً أكثر من أي شخص آخر في الكتاب، وأن الرجل ثقة، مما دفع بعض الباحثين إلى أن يقول: لعل ابن المديني سمع بالفرية التي ألصقت به، فلما ألف كتاب العلل، أشبع قيس بن أبي حازم توثيقاً له ليدافع عن نفسه ضد الفرية التي ألصقت به.

فخلاصة القول: أن ابن المديني رحمه الله كان صحيح العقيدة في القرآن، صحيح أنه لم يثبت مثل الإمام أحمد، هذا بلا شك، أما أنه افترى وأعطى أدلة للقوم يتقوون بها فهذا كذب وافتراء، وقد تبرأ من القوم بعد ذلك، وقال: إنهم كفار، وأعلن عقيدته صريحة بعد ذلك، وبيَّن عُذْرَه، وأنه ضعيف لا يقوى على الضرب، وأن هناك فرق بينه وبين أحمد بن حنبل رحمه الله، وأظهر ندمه على كلامه مع أنه مكره عليه، وكان يبجل أحمد جداً لموقفه، ولذلك لما ورد عليه رسالة من أحمد بن حنبل في تلك الأيام ونظر إليها جعل يقول علي بن المديني: يأتي بأبي تركةُ الأنبياء.

وقبَّله ووضعه بين عينيه.

فقال له رجلٌ من جلسائه: يا أبا الحسن! ما نشبه أحمد بن حنبل في زماننا إلا بـ سعيد بن جبير في زمانه، فقال علي بن المديني: لا.

بل أحمد في زماننا أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء في زمانه، وأما أحمد فلا يُعرف له نظيرٌ في شرقها ولا في غربها.

الذهبي رحمه الله في ترجمة علي بن المديني: "مناقب هذا الإمام جمة لولا ما كدَّرها بتعلقه بشيء من مسألة القرآن، إلا أنه تنصل وندم وكفَّر من يقول بخلق القرآن، فالله يرحمه ويغفر له".

إذاً: هذا موقف الإمام علي بن المديني رحمه الله، وكان يدعم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015