إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
إذاً: يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها؛ مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، فيكوى في جبهته وجنبه وظهره ويكون في هذه المواضع، لأنه كما قال العلماء: إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، ثم إذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه، زيادة إعراض، فإذا ألح عليه، ولاه ظهره وأعرض، فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة: الوجه والجنب والظهر، الكي في هذه المواضع أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر هو الكي في الجهات الأربع: الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الاعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل.
تأمل قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
قال الله: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، ولم يقل: إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله: {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} صارت متبوعاً، وقائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون {اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا، أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودهم، والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي؛ لذلك فسعيهم للذة المال، والمتعة، والجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فيأخذ المال من حرام وحلال من أجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر اتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات تذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعيد المحرمة، وارتكاب الفواحش، واتباع مطلق للشهوات.
أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرضان شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة، كالبخل والشح واتباع الشهوات، وهذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنهما أعظم ما أصيب به المجتمع، وهذان المرضان -فعلاً- بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج، ويحتاج الذين وقعوا فيهما أن يرجعوا إلى الله تعالى، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأني والتأمل، ومعرفة السبيل الناجع في المداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن.
ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو لكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته، وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين.
اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على الصراط يا رب العالمين.
اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، وأصلح الأئمة ولاة العباد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.