وآية أخرى من كتاب الله تعالى في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى؛ فسرعان ما يقول لك: دعه دعه؛ فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، أو أن يتحسر الدعاة ويقولون: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله تعالى بيَّن فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء، فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية! لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، ولا تظن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر فإن الله هو الذي أدخل الهداية إلى قلبه.
ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس والتوقف عن الدعوة بأن يقال له: لقد أديت ما عليك وأجرك قد ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرات، ولا تأسفن عليه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك أنهم لا يؤمنون، فهذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله تعالى، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر والعياذ بالله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فأبى أن يقول، فأنزل الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذى قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبداً، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو له لقاء هذه المجهودات-وهو عمه وأقرب الناس إليه- في أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً، في أن الإنسان مهما بذل الأسباب؛ فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً، كما بين الله تعالى أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه، فليعلم الناس أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً، واجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.