ثانيا: التمني، فإنه من مفسدات القلب، وهو بحر لا ساحل له، يركبه مفاليس العالم، والمُنَى رأس أموال المفاليس، والمفلس هو الذي ليس عنده أعمال صالحة، أو ليس عنده عطاء لهذا الدين، ماذا يفعل لكي ينجو من لوم النفس إذا لامته، أو ينجو من تأنيب الضمير إذا أنبه؟ يعلق النفس بالأماني، ويقول: سيغفر الله لي، أليس الله بغفور رحيم! فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة تتلاعب براكب بحر التمني، وكل حسب حاجته، فمنهم من يعتمد على رحمة الله ويعصي ويحلم بالأماني، ويحلم بجنة عرضها السماوات والأرض، ولكن لا يفكر في أنها أعدت للمتقين، هؤلاء المتكلون على رحمة الله، مما ضيعهم مسألة مهمة جداً ما هي؟ إذا تأملت حالهم وجدتهم ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، هذه عبارة مهمة جداً، ذكرها علماؤنا، "ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم"، هؤلاء أصحاب الأماني، ما هي مشكلتهم ومصيبتهم؟ إنهم ينظرون في حقهم على الله، فيقولون: لا بد أن الله يغفر لنا، فنحن موحدون، ونحن مسلمون، قلنا: لا إله إلا الله، أليس من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ أليس؟ أليس؟ أكيد أن الله سيغفر لنا، فينظرون في حقهم على الله، والآن كل تفكيرهم وجل همهم ماذا سيفعل الله لهم من أنواع النعيم المقيم وجنات النعيم، ولكنهم لا يفكرون في حق الله عليهم، لو فكروا في حق الله عليهم وأنهم ينبغي أن يعبدوه وأن يصلحوا شأنهم معه؛ لعرفوا تقصيرهم، ولعرفوا أنهم مهما قدموا من الصالحات فلا يزالون مقصرين، إلا إذا تداركهم الله برحمته، و (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فإذاً: هذا التمني من الدواهي التي تصيب القلب فتهلكه؛ لأن الإنسان لا يزال في أحلام وتخيلات، في أنواع الجزاء الذي سيأخذه يوم القيامة، وهو قد نأى بنفسه عن التفكير في حق الله عليه.
ومن الناس من يجعل تمنياته في القدرة والسلطان، فيحلم وينظر إلى المستقبل أو ينظر إلى نفسه، يتمنى أن يكون أميراً أو كبيراً أو وزيراً أو رئيساً أو زعيماً، أو مديراً أو نائب مدير، أو نائب المدير العام ونحو ذلك من الأشياء.
ومنهم من أمانيه في الضرب في الأرض والتطواف في البلدان، في السياحات، ورؤية البلدان والمناظر الخلاّبة إلخ.
وهذا أمانيه محصورة بهذا الجانب، ومنهم أناس من أمنياتهم أو أمانيهم في الأموال والأثمان، تاجر وربح وكسب، وتضاعف رأس ماله ولا خسارة تذكر وهكذا وتوسعت الشركات، وفتحت الفروع، وعملت الأعمال، وهكذا فهو محصور في عملية الأثمان والأموال والتجارات وكل متمن بحسبه.
ومشكلة التمني أنه يصور الأمر لهذا المتمني أنه قد فاز بمطلوبه؛ لأنه عندما يفكر أنه قد وصل وأنه حصل على هذه الأشياء، وهذا مجرد تفكير وخيالات يرتاح فيها مؤقتاً، ويلتذ لذة وهمية، لأنه لم يحصل له شيء من هذا، وإنما هي أمنيات، فبينما هو على هذه الحال إذا استيقظ فوجد الحصير في يده، ليس عنده إلا الحصير.
فلابد أن نقف وقفة بسيطة، نقول: هل خطأ أن الإنسان يتمنى مالاً، أو غنىً أو جاهاً، هل هذا خطأ في الشرع، نقول: لا.
لكن الخطأ ورد في حديث مهم جداً، ذكره عليه الصلاة والسلام: ذكر أربعة من الرجال وذكر أحوالهم، فكان مما قاله في أحد الأحاديث: (ورجل يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) إنسان غني يعمل صالحات، وينفق أموالاً وزكوات وصدقات وكفالة أيتام ويبني المساجد ويعمل الملاجئ والأوقاف وآخر يقول: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله، وكلمة لو أن لي مال فلان، تعتبر تمنياً وهذا هو التمني المحمود؛ لأنه يتمنى لو أن له مال فلان لعمل فيه بعمل فلان، أي لتصدق وزكى وأنفق وبنى المساجد وكفل الأيتام، وتصدق على الفقراء، وأخرج المجاهدين وعمل أوقافاً إلى آخره، وطبع الكتب، ودعم الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وعمل مراكز ربما في الخارج، وأنفق على دعاة، وجعل رواتب للدعاة لكي يتفرغوا للدعوة، وفكر في أشياء، هذا الإنسان يؤجر على أمنيته، يؤجر على نيته الطيبة، ولو ما عنده مال، يقول عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء).
وآخر عنده مال عمل فيه بمعصية الله، سافر السفريات المحرمة، وأنفق الأموال على أهل الفواحش، وأرباب الفسق وقرناء السوء، وظلم في هذه المال، وقطع رحماً، ومنع زكاةً ولم يكن من المصلين، ولم يحض على طعام المسكين، ونهر السائل، وقهر اليتيم الخ.
هذا إنسان آثم ولا شك، وشخص آخر يقول: لو أن لي مال فلان، لعملت بعمله، لو أن لي مال فلان، لركبت السيارات، ولبست الساعة الذهب الفلانية، وسافرت إلى المحلات الفلانية، وعملت الفواحش، وعملت الموبقات، ووضعت في البنك الربوي الفلاني وجاءتني الفوائد الفلانية، إذاً: هذا الإنسان ليس له مال، لكن مجرد الأمنية هذه يأثم عليها، فيقول: عليه الصلاة والسلام: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ليس له مال، ولكن تصور حتى تعلم أن القلب يعبد الله أو يعصي الله، يؤجر على ما في القلب ويأثم على ما في القلب، وهذا الإثم من إنسان مريد عاقد النية، لو كان له مال فلان لعمل فيه وهذا غير الخواطر، لأنه قد يقول قائل: إن الإنسان لا يأثم على الخواطر، نقول: نعم.
لا يأثم على الخواطر السيئة إذا طردها، جاءت ومرت، لكن هذا عازم، لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، معناها أن هذا الإنسان مصمم على المعصية وعاقد العزم عليها، وقلبه متجه إليها بكليته غير الشخص الذي يعي قول الله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فلا تتناقض في النصوص الشرعية.
هل يمكن أن تحجب التمني عن إنسان تقول له أنت يا فلان لا تتمنّ أبداً ولا تتخيل أي شيء؟ لا يمكن؛ لأن التمني شيء من ضروريات التفكير والعقل، ولا بد منه، وكل شخص يتمنى شيئاً ما.
فإذاً: ذكرنا تمنيات أهل الفسق والفجور، فما هي تمنيات أهل الصلاح؟ ذكرنا بعض التمنيات التي تصرف الإنسان عن الله في الأثمان والنسوان والسلطان الخ.
فما هي تمنيات أصحاب الهمة العالية؟ مثلاً: رجل يتمنى أن يحفظ صحيح البخاري، أو يحفظ القرآن قبل ذلك، ويتمنى أن يكون قد قرأ كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ويتمنى أنه قد درس عند الشيخ الفلاني، أو يتمنى أنه كان في روابي أرض الجهاد فيجاهد في سبيل الله، يتمنى الخير ويقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان من الأتقياء، يتقي فيه ربه، ويخرج حقه، ويصل رحمه.
هذا التمني هو الذي ينبغي أن يكون في نفس المؤمن، يتمنى أن يقاتل أعداء الله، يتمنى أن يرفع لواء للجهاد فيكون من أوائل الخارجين في سبيل الله، هذه الأمنيات ينبغي أن تكون موجودة في القلب وهي ليست مهلكة، ولا آثمة، وإنما هي أماني المؤمن، ولكل إنسان أمانيه، فما هي أمنيتك أيها المسلم؟ إن العصاة يتمنون أن يعصوا الله بأموالهم وصاحب الدنيا يتمنى سيارة فارهة، وبيتاً من عدة أدوار، وسلطان، وأهل الآخرة أمنياتهم تختلف عن أهل الفسق تمام الاختلاف.