ولنأخذ مثلاً واحداً يبين لنا الهمة العالية في البحث عن الحق، إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من عباد النار من المجوس، وكان مع أبيه يحش النار، فحصلت له حادثة حيث أرسله أبوه في أمر فمر على ديرٍ للرهبان فتعرف على دين النصرانية فأعجب بهم فأخبر أباه فسجنه وقيده بالسلاسل، فأرسل إلى أولئك النصارى يسألهم عن أصل هذا الدين، قالوا: هو بـ الشام، فأرسل إليهم يقول: إذا كان هناك أناس يريدون السفر إلى الشام فأعلموني فلما علم حلَّ القيد وهرب وخرج إلى الشام، وذهب إلى أسقف في كنيسة يخدمه ويتعلم منه ويبحث عن الحق، فإن عبادة النار هذه لا تجدي، ولا تنفع، ولا تصلح.
ولما أوشك الرجل على الموت عَلِم سلمان أنه كان رجل سوء، وأنه كان يأخذ من صدقات الناس ويخزنها، فدل الناس عليه فرجموه وصلبوه ولم يدفنوه، وجعلوا واحداً بدلاً منه وكان رجلاً صالحاً على دين التوحيد، يعني: ملة عيسى عليه السلام، فلازمه سلمان رضي الله عنه يخدم ويتعلم منه فلما أوشك الرجل الصالح على الموت قال: لمن توصي بي من بعدك، فأوصاه إلى رجل بـ الموصل، فذهب إليه يتعلم منه، فلما نزل به الموت أوصاه إلى رجل بـ نصيبين، فلما حضرته الوفاة أوصاه برجل بـ عمورية، وسلمان ينتقل ويسافر من بلد إلى بلد.
فلما نزل الموت بصاحب عمورية، سأله سلمان فقال: تدلني على من؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
فلما واراه ودفنه أعطى كل ما يملك إلى رجال من تجار من العرب ليحملوه إلى أرض العرب، لكنهم ظلموه وباعوه عبداً لرجلٍ من وادي القرى فباعه على رجل من بني قريظة، فجيء به إلى المدينة وهو عبد، فأقام في الرق.
وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة وسلمان لا يدري عنه شيئاً، يعمل في النخل، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فجاء ابن عم اليهودي يخبره بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان فوق النخلة فلما سمع الخبر قال: فأخذتني العرواء -يعني: الرعدة- حتى ظننت أني سأسقط على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا؟ ولكن سلمان عند المساء أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام قال: هو صدقة، فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه مرة أخرى بطعام قال: هو هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمان يقول: هذه واحدة، والثانية: فدار سلمان حول ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يتثبت من شيء فأرخى له الرداء فقال سلمان: فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي.
يعني: بعد هذه السنوات الطويلة جداً وصل سلمان إلى هدفه، وعرف الحق، ترك أباه وأهله وفارق الأوطان وتغرب وأنفق كل ما عنده من البقرات والمال لأجل أن يسافر إلى المكان الذي فيه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وظُلِمَ وبِيْعَ عبداً فاشتغل في الرق سنوات طويلة جداً حتى وصل إلى الحق وعرفه.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام