وقد أخبرنا الله تعالى أنهم أصحاب قدرات عجيبة، وسخر الجن لنبيه سليمان فكانوا يقومون له بالأعمال الكثيرة، قال الله عز وجل: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:12 - 13] فيعملون له ما شاء بتسخير الله له، سلطه عليهم، لا يستطيعون أن يخالفوا أمر سليمان ومن خالف أذاقه الله من عذاب السعير، وهو الحريق فيحرق، والمحاريب هي: المساجد والأبنية الكبيرة، والتماثيل قيل: من غير ذوات الأرواح، ولو كانت من ذوات الأرواح فيحمل على أنه لم يكن حراماً في شريعة سليمان مثلاً، وجفانٍ ك
صلى الله عليه وسلم أي أنهم يعملون له أحواض كبيرة جداً للماء، وقدورٍ راسيات: يعني ثابتات في أماكنها لا تتحرك من عظمها واتساعها، قدور يطبخ فيها طعام جيش سليمان الذي كانت تحمله الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ولا يكون عند الكفار المتقدمين ولا المتأخرين، مهما بلغوا أسباب القوة لا ينالون أبداً ما نال سيلمان عليه السلام من أسباب القوة.
إذاً لهم قدرات عجيبة، ومن قدرتهم: استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران، والطيران بها في المسافات الشاسعة وإحضارها، وإدخالها عبر الجدران مرة أخرى إلى مكان ما، ولذلك قال سليمان وهو يفكر في طريقة لدعوة ملكة سبأ إلى الله وكيف يقنعها؟ قال يستشير من حوله من أولياء الله الصالحين ومن الجن الذين سخرهم الله له: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39 - 39] فهذا الجني الشديد كان يستطيع -ولم يكن يكذب في دعواه- أن يأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها في اليمن ويضعه داخل قصر سليمان في الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه! إذاً قضية استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران والأجسام الصلبة والطيران بها تلك المسافة الشاسعة في وقتٍ قصيرٍ جداً للغاية أمرٌ مقدورٌ لهم، أخبرنا الله عنه لا مجال للتكذيب به، فاستخدمت الشياطين هذه القدرات في إضلال الناس {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وهذا المنطلق الذي ننطلق به في استكشاف كل القصص التي يأتي بها الناس ويتداولونها عن أشياء خرقت العادة التي يعرفونها، ونقول: انتبهوا يا عباد الله! فليست كل خارقة كرامة من الله، ليست كل خارقة تدل على صلاح صاحبها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن الدجالين وذهب إلى عبد الله بن صياد، وكان قد ظن أنه الدجال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على كشف أمره فقال له: (قد خبأت لك خبئاً -يقول النبي عليه الصلاة والسلام مختبراً له- قال عبد الله بن صياد: الدخ الدخ) والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد خبأ له سورة الدخان فقيل: إن شيطان عبد الله بن صياد قد أوصل إليه الخبر من السماء، ولكن الخبر وصلَ ناقصاً، وما وصلت كلمة الدخان كاملة لـ عبد الله بن صياد، ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت من إخوان الكهان والشياطين، يأتونك بهذا الخبر ويخلطون فيه، فلذلك أتوك به ناقصاً، وعرف بعد ذلك أن عبد الله بن صياد ليس هو الدجال المنتظر، وإنما هو دجالٌ من الدجاجلة يعينه الشياطين.
وهكذا أعانت الشياطين مدعيي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل فتنة الناس فهذا الأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين -كما ثبت في التاريخ- من يخبره ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور قال شيخ الإسلام رحمه الله كاشفاً زيف هؤلاء، ومن كلامه ننقل هذه الدرر النفيسة والتجارب العظيمة له رحمه الله مع هؤلاء في كشف أحوالهم، ينقل تاريخياً ومن واقعه، قال: وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بـ الشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد -هو مقيد ويخرج من القيد- وتمنع السلاح أن ينفذ فيه -الشياطين تمنع السيوف والرماح من النفوذ في جسد هذا الدجال.
وهذا يذكرنا بما يفعله بعض أصحاب الطريقة الرفاعية الصوفية الضُلَّال من ضرب أجسادهم بالشيش، وما يفعله بعض الذين يستعينون بالشياطين في بعض السيركات أو الحفلات التي يعملونها من ضرب أنفسهم بسكاكين، أو بسيوف، ولا يخرج منه قطرة دم واحدة، وليس خداع نظر، بل شيء حقيقي، ما هو التعليل؟ عندما يعرف المسلم الحقيقة لا تنطلي عليه الأباطيل، الاستعانة بالشياطين، إذا كان الشيطان يستطيع أن يستخرج عرش ملكة سبأ وهو جسمٌ كبير عبر الجدار، فكذلك يستطيع أن يمنع اختراق السيف لجسم شخصٍ، أو أن يخترقه دون إيذاء كما يخترق عرش ملكة سبأ جدران قصرها، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبِّح الرخامة إذا مسحها بيده، هذا الدجال كان إذا مسح رخامة سبَّحت، وصوت التسبيح صادر من الشياطين الذين يعينونه لإضلال الناس -وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة وإنما كانت جنا- فالجن تتشكل بأشكالٍ يراها هذا الدجال ويظنها ملائكة تنزل عليه بالوحي، وفعلاً يلقون في سمعه كلمات وهكذا مسيلمة كان يسمع شيئاً في أذنه فعلاً، وهو مما تنزلت به الشياطين، ولذلك لا يمكن أن تجعل الأحوال الشيطانية هذه دليلاً على أن هذا الرجل ولي من أولياء الله، ولا يمكن أن تُجعل أي خارقة من خوارق العادات دليلاً على أن هذا الرجل صالح أبداً، فإنه قد يكون مشركاً عظيماً من المشركين تساعده هؤلاء الشياطين.