مثال أخير: نختم به كلامنا والموضوع لازال، ولازال فيه أشياء: الذي فقد ولده في الميزان الدنيوي والبشري، ماذا يعتبر؟ حلت به كارثة أو مصيبة، لكن الذي فقد ولده عند الله شيء آخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الرقوب فيكم؟ قلنا: الذي لا يولد له -الرقوب في اللغة: الرجل والمرأة الذي لم يعش لهما ولد، لأنه يرقب موته ويرصده خوفاً عليه- قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئاً، قال: فما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم.
نعود إلى قضية الرقوب، ولفظ أحمد: (شهد رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، فقال: الرقوب كل الرقوب ثلاثاً، الذي له ولد فمات -الأب- ولم يقدم منهم شيئاً) هذا هو الرقوب.
وعن بريدة بن الحصيب، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله! ومالي لا أجزع، وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال عمر وهو عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي واثنين، قال: واثنين) رواه الحاكم وهو صحيح الإسناد، وأخرجه البزار وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن ينقل مفهوم كلمة الرقوب إلى شيء آخر غير الذي في الأذهان، أن الذي قدم شيئاً من الولد واحتسبه عند الله تعالى هو الرابح، والذي لم يقدم شيئاً من الولد في حياته فيفوته ثواب الصبر والتسليم عند فقد الولد، فنحن لا نتمنى فقد الأولاد ولا ندعو الله بأخذهم أبداً، وقد نهينا عن ذلك، ولكن إذا حصل نصبر، وماذا تكون نظرتنا لمن مات أولاده؟ أنه كاسب رابح إذا صبر وسلم لقضاء الله.
أحد الإخوان حصل له حادث، وضربت سيارته من الخلف، فمات أولاده الثلاثة في المقعد الخلفي في حادث واحد مريع، حتى نزلوا يجمعون الجثث، وهذا مخ الرأس، وهذه الأشلاء والجثث، مصيبة واقعة وكارثة كبيرة جداً، كل الذكور ماتوا في حادث واحد وضربة واحدة، بالنسبة لنا كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن عند الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذراري المؤمنين عند إبراهيم وسارة يكفلانهما لآبائهما) يوم القيامة إبراهيم يرجع كل واحد مات وهو صغير لأبيه وأمه، كما جاء في الحديث الصحيح أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فكفالة إبراهيم وسارة -أو سارّة لأنها كانت تسر إبراهيم بجمالها من عظمه- أحسن من كفالتك.
إذاً: القضية الفرق بين الميزان البشري وما عند الله، فلو أننا آمنا بهذه الأشياء ستتغير سلوكياتنا وأعمالنا وأحوالنا تغيراً جذرياً، وهذا هو المهم -أيها الإخوة- وهو الذي أردنا لفت النظر إليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أصحاب البصيرة، اللهم اجعلنا من أصحاب البصيرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن والأمان لنا ولجميع المسلمين، اللهم احفظنا واحفظ أموالنا وأهلينا من كل سوء يا رب العالمين!