الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل، وأحب خلق الله إلى الله، وخليل الله الذي اصطفاه الله على العالمين، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وصبر على الأذى في سبيل الله حتى كان مثالاً حياً بسيرته بين أظهرنا اليوم؛ كأنا نرى تلك السيرة، وتلك الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت) الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجد ولياً ولا نصيراً، يريد من كفار قريش أن يجيبوه وينصروه فلا يجد.
(فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي).
هذه الألفاظ أيها الأخوة تصور محنة الداعية التي يعيشها حينما يعرض الناس عنه، محنة الداعية التي يعيشها حينما يرفضه كل الناس، حين يطرده جميع الناس، عندما يوصدون الأبواب في وجهه، ولا يرضون بالحق الذي يقول به، ويعرضون عنه.
(فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب) وهو موضع قريب من مكة.
الرسول صلى الله عليه وسلم هام على وجهه من الغم، وما أفاق إلى نفسه ليعرف إلى أين يسير إلا في قرن الثعالب، وليس ذلك لأجل إفلاس، ولا لذهاب تجارة، ولا لخسارة في صفقة، ولا لفقد وظيفة، كلا.
(فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أي: الجبلين العظيمين اللذين تقع بينهما مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).
وعندما يكون الظلم من الأقرباء يكون وقعه شديداً على النفس
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي بطون قريش: (يا بني عدي حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر في الأمر، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا - فقال عليه السلام: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم -جيش قريب من مكة يريد أن يغير عليكم- أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم.
ما جربنا عليك كذباً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا).
وأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، داعية إلى الله يقوم يجمع الناس يأتون إليه، يهددهم بعذاب الله عز وجل ويدعوهم إلى الله، فيقوم له واحد من الحاضرين فيقول له: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ واليوم تعقد مجتمعات للدعوة إلى الله، وقد يجمع داعية إلى الله الناس في بيته، أو يذهب إليهم في بيوتهم فينصحهم وينذرهم عذاب الله، فتنطلق ألسنة المستهزئين به، إنه يتذكر والموقف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد وصل الأمر إلى أن ادعوا أنهم أحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق وصلة الرحم، فهذا أبو جهل لعنه الله وقف يوم بدر يبتهل إلى الله ويقول: اللهم أقطعنا للرحم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة.
يوم بدر يقف أبو جهل لعنه الله يدعو الله أن يهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قطع الرحم، وأتاهم بما لم يعرفوا، فأنزل الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] كما في الصحيح المسند من أسباب النزول.
ولقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في إنجابه، فعن ابن عباس قال: (لما قدم كعب بن الأشرف مكة -وكان كعب بن الأشرف يهودياً- قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم -وكان هذا قبل الهجرة- قال: نعم.
قالوا ألا ترى إلى هذا الصنبور).
يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخدام الألفاظ المشينة؛ ألفاظ السب، وانتقائها من قاموس السباب والشتائم لإلصاقها بالدعاة إلى الله قضية قديمة؛ ليست حديثةً ولا وليدة هذا العصر.
والصنبور في لغة العرب: هو الرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب، ولا ناصر ينصره، قالوا: (ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه.
فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]) أي: إن شانئك وسابك يا محمد هو الأبتر الذي لا عقب له.
وأخيراً هذا الموقف الذي تحكيه لنا آية الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] إن عقد المؤتمرات لإجهاض الدعوة، والمؤامرات على دعاة الإسلام، وإلحاق الأذى بهم قضية قديمة.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] لقد اجتمعوا في حجر إسماعيل بجانب الكعبة في مكة؛ يدبرون ويخططون لثلاثة أشياء: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} ومعنى: يثبتوك: يقيدوك ويحبسوك حتى لا تقوم بالدعوة.
{أَوْ يَقْتُلُوكَ} ويضيع دمك بين القبائل.
{أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة ويطردوك حتى لا تكون بينهم.
روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا بنيه؟ قالت: يا أبت! ما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك ليقتلوك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنيه! ائتيني بوضوئي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا، فطأطئوا رءوسهم، وسقطت أذقانهم من بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم -أعماهم الله- فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً).
قال ابن كثير رحمه الله: قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة.
ولو استطردنا أيها الأخوة في ذكر ألوان الأذى التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطالت بنا المجالس والأوقات، ولكن إنما هي تذكرة نذكر بها أنفسنا ونسليها ونحن نواجه اليوم أعداء الله، ونواجه مخططاتهم، واتهاماتهم، وسبابهم، وفسوقهم، وأذاهم، وحملاتهم علينا.
إن الإنسان ليزداد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكباراً له عليه الصلاة والسلام وإجلالاً؛ حين يرى في سيرته صلى الله عليه وسلم من صبره على الأذى، ومن تحمله ذلك في سبيل الله لأجل شيء واحد: أن يبلغ رسالة الله إلى الناس، أن يبلغ الناس دين الإسلام؛ هذا هو الهدف، هذا هو الغرض من الحياة، وإلا فإن الحياة بغير هذا الغرض حياة بهيمية.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك، اللهم واجعلنا من دعاتك وجندك، اللهم وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وآتنا الحجة على من عادانا، اللهم وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وصلِّ على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم صلاةً تامَّة ما بدا الليل والنهار، اللهم صلَّ عليه صلاة تامة ما غربت شمس وما شرقت.
اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، اللهم أوردنا حوضه، اللهم وارزقنا مرافقته في الجنة.