الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟ يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي صلى الله وعليه وسلم، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها أنواع تكبيرات العيدين، يجوز وكلٌ مأثور، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة، فلا ينكر عليه لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية.
وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وذكر عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً.
إذاً فيمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام أنه قد ثبت بالأدلة.
إننا أيها الإخوة! قد تظهر فيها أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية فمثل: (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على البعيد) أليس شعاراً جاهلياً؟ ومع هذا فإنهم يفعلونه، ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟ أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: (عقليته عقلية كذا) ونحو ذلك؟ أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في الدين ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟ ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟ أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا وتزويقها وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقضي ألا إسراف وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويق البيوت؟ أليس أيها الأخوة ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهرت في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟ عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له) رواه النسائي رحمه الله، فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا أيها الإخوة.
أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رءوسنا جاهلية جهلاء في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل لن يعود رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك يحدث بيننا أيها الإخوة؟ وهكذا وهكذا من الأشياء الكثيرة مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة، بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت وسلكت سبيلاً كثيراً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرني فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبني والآن دعتني فلا أجيبها، هكذا نتعامل مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية.
فهذه تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً يرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.