فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط.
قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين.
قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟! واليهود يقولون: (يد الله مغلولة) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل.
لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـ أهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـ أهل السنة.
لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة.
ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة.
تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـ نصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم.
عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.