الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، لا إله إلا هو يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! بكى أبو هريرة في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: [أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعود مهبطٍ على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي].
وهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حضره ابن عباس، فقال له: [أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد؟ فأعاد، فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء من الذهب والفضة، لافتديت به من هول المطلع].
ولما حضرت سلمان الفارسي الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً على الدنيا، ولكن عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب] فلما مات سلمان نُظر في جميع ما ترك، فإذا قيمته بضعة عشر درهماً، خاف من بضعة عشر درهماً أن يكون خالف فيها وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكَّر عمر بن عبد العزيز من حوله، فقال: ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل، وتضعونه في صدع من الأرض، قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وقطع الأسباب؟!
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ
نظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظل، فبكى وقال:
من كان حين تصيبُ الشمس جبهتهُ أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشتهُ فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في قعر مظلمةٍ غبراء موحشةٍ يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
هانحن نمر في الجنائز ونمشي فيها ونحملها، ولا تدمع العيون، ولا تتحرك القلوب، ولا تُرى على الوجوه آثار الخشية من هذا المصير، والله إنها غفلة، وإلا فمن لا يعتبر بميت محمول إلى حفرة ضيقة.
قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة، ولا ندري من المعزَّى فيها لكثرة الباكين.
ليس أهل الميت فقط هم الذين يبكون؛ بل كل الناس يبكون فيها، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة، فلا نرى إلا باكياً.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أياماً.
وقال أسيد بن حضير: [ما شهدت جنازة وحدثت نفسي بشيء سوى ما يفعل بالميت، وما هو صائرٌ إليه].
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت، عرف فينا أياماً، لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمرٌ صيره إلى الجنة أو إلى النار، وإنكم في جنازتكم تتحدثون في أمور الدنيا.
إنه ليرى في الجنازة من يضحك، ويُرى في المقبرة من يضحك، ويُرون خارجين من المقابر وبأيديهم السجائر يدخنون، ضحك وتدخين في أعظم مكان يمكن أن يتذكر فيه الإنسان في المقبرة غاية الغفلة، فإذا كانت الغفلة في المقبرة، فماذا نتوقع خارج المقبرة؟ ولذلك لا عجب إذاً أن يقعوا في المعاصي المتواليات، ويسهروا الليالي من أجل المعاصي.