إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فقد تحدثنا -أيها الإخوة- في الخطبة الماضية عن حق الطفل في الإسلام، وعما جاءت به الشريعة من الحكم والأحكام بشأنه؛ رفعت من قدره، وجعلت له مكانة وحقوقاً، وذكرنا بأن هذه الشريعة الكاملة لا يعدلها نظام ولا قانون، ولا يصل إلى مستواها تدبير؛ لأنها من تدبير العليم الخبير، الذي خلق النفس ويعلم ما تحتاج إليه وما يصلحها.
ونريد أن نبين أن الطفل في الإسلام حقوقه أعلى من الطفل في الغرب، للذين يتبجحون بأن عندهم للأطفال حقوقاً ليست عند المسلمين، وأن وضع الطفل الغربي أفضل وضع على الإطلاق، لقد قلنا -أيها الإخوة! - وذكرنا بعض الآيات والأحاديث، ومن السنة المطهرة ذكرنا أموراً كثيرة جداً مما جاءت به الشريعة بشأن الطفل، لا يوجد له مثيل مطلقاً في قوانين الغرب والشرق، وقد حملت الشريعة الأبوين مسئولية تربية الولد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: [علموهم وأدبوهم].
الأبوان عندنا يندفعان لتربية الطفل خوفاً من الله عز وجل، وخشية نار وقودها الناس والحجارة، ولذلك يكون الباعث خشية الله تعالى، إذا فرط الوالد أو الوالدة فإن العذاب والعقاب لهما بالمرصاد يوم الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها: أولاً: أمر الأولاد بالصلاة، وثانياً: ضربهم عليها، وثالثاً: التفريق بينهم في المضاجع، وما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن، ولأن يؤدب الوالد ولده خيرٌ له من الصدقة بكذا وكذا.
ذلك أن هذه التربية هي خيرٌ دائم، ونبع مستمر، وعطاء متجدد يكون في نفس الولد، ولذلك يكون من حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته ويحسن أدبه، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للرجل أن يُكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه، أي: يحمله على ذلك، ولذلك اهتم السلف جداً بالأطفال، فنبغ أطفال كثير من المسلمين، حفظوا القرآن منذ سن مبكرة، وحفظوا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت لنا أخبار حلق العلم نبأ طفل يبلغ من العمر أربع سنين يجلس في مجلس الحديث يحفظ، غير أنه إذا جاع يبكي.
وحملت الأخبار نبأ النووي رحمه الله وهو ابن عشر سنين، والأطفال يريدونه للعب معهم، وهو يأبى ويبكي ويقرأ القرآن.
وحملت الأخبار نبأ طفولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان أطول الأولاد لوحاً، فكتب له الشيخ عشرين حديثاً، ثم قرأها مرة واحدة فسردها عن ظهر قلب، فكتب له عشرين أخرى، فقرأها مرة واحدة، وحفظها عن ظهر قلب، ثم سردها على الشيخ.
وبذلك تفوق ذلك الجيل والأجيال الذي بعده من هذه الأمة في عصر عزها وازدهار أمرها، ولكن لما ضعفت التربية الدينية، والتعليم الشرعي للأولاد في هذا الزمان؛ لم نعد نسمع عن مثل أولئك العلماء الفطاحل، الذين خرجوا يجددون للأمة أمر دينها، وينشرون العلم في الأرض، وذلك بسبب واضح وهو عدم الاهتمام بتعليم الطفل منذ سن مبكرة، فنحن نتركهم للهو وآلاته، ونتركهم للفساد وأجهزته، ولا نحملهم أو نهتم بهم في طلب العلم والتأديب الشرعي منذ نعومة أظفارهم.
عباد الله: أليس من نعيم الدنيا أن يكون للإنسان قرة عين من ذريته، لقد سأل كثير بن زياد الحسن البصري رحمه الله عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] فقال: يا أبا سعيد! ما هذه القرة أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: لا.
بل والله في الدنيا، قال: وما هي؟ قال: أن يري الله العبد من زوجته أو من أخيه أو من حميمه طاعة الله، لا والله! ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً، أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل.
فهذه قرة عين أن ترى ولدك يمشي على الشريعة بحسب ما جاءت به ملتزماً بآدابها، أن ترى ولدك متفقهاً في الدين، هذه من أعظم قرة العين في الدنيا (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والرجل راع على أهل بيته) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد راعت الشرعية العدل بين الأولاد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم) ولما نحل والد ولده غلاماً -أي: عبداً- وأراد إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على طلب أمه، قال له عليه الصلاة والسلام: (أله أخوة؟ قال: نعم، قال: أكلهم أعطيت ما أعطيته، قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم، وفي رواية: (لا تشهدني على جور) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
إذاً: العدل بين الأولاد منذ الصغر يكون حاديهم إلى البر بآبائهم، حتى في القبلات كان السلف يعدلون، ولما رئي رجل وقد جاء ولدٌ ذكرٌ له فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه من غير تقبيل، فقيل له في ذلك المجلس: ما عدلت بينهما.
عباد الله: ربما يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، ولذلك ينبغي الاهتمام بهم أشد الاهتمام.
عباد الله: لما فشا فينا حب الغرب، وذهب من ذهب إلى بلاد الغرب، وتفتح من تفتح على حضارة الغرب، وصار النظر إلى كتاباتهم وإنتاجاتهم وصناعاتهم؛ غر المغرورين منا ذلك التقدم الظاهري: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وقالوا: الطفل في مجتمعات الغرب يحيا أجمل سنوات عمره، وهو أرقى طفل في الكون، مستوى معيشة الطفل الغربي يفوق آلاف المرات مستوى معيشة الطفل في البلاد العربية والإسلامية، الغرب يوفر للطفل كل شيء.
هذه العبارات وغيرها إذا جئت بها عند التحقيق، ونظرت إليها تحت المجهر وجدت أن المسألة ليست كذلك، ومن باب الإنصاف والعدل لا بد أن نقول: إنهم قد حققوا تقدماً كبيراً في بعض الجوانب بالنسبة للأطفال، فترى الحرص على الفحص الطبي، وصحة الولد، وبرامج التطعيمات، ومعالجة العيوب الخلقية، وتعهد الأطفال المعاقين، وعلاج الأمراض النفسية من الانطواء والانكماش؛ والخوف والتردد، وعمل برامج لتقوية النبوغ في الأطفال، والاهتمام بمدارس الأطفال أكبر من الاهتمام بالمدارس المتوسطة والثانوية، وحرية إبداء الرأي عند الطفل، والحديث والسؤال، والجلوس مع الكبار، والتشجيع على القراءة، وعلاج عسرها وبطئها، والبرامج التعليمية والتثقيفية، وزيارة المدرسين للأولاد في البيت، لا شك أن ذلك موجود عندهم، وقد تقدموا في ذلك تقدماً عظيماً، والإمكانات متوفرة لديهم بشكل كامل في هذا المجال.
ولكن ما هي ميزتهم علينا في الحق والحقيقة؟ من جهة الاستعداد والإمكان يمكن للمسلم أن يأخذ كل تلك الحكم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها يمكننا أن نأخذ كل تلك الإيجابيات ونجعلها عندنا، لأن ذلك أمر متوفر إذا صدقت العزيمة.
أما نظريات تربية الأطفال فإنها قد كثرت، ولعلنا من خلال عرض بعض الأقوال لبعض علماء الإسلام نخرج وإياكم -أيها الإخوة! - بنتيجة واضحة من أن هذه الشريعة وهذا الدين، وعلماء هذا الدين قد بينوا كل ما يحتاج إليه الطفل بحيث لا نحتاج بعدهم إلى أحد، ولن ننقل كلاماً من عالم مسلم معاصر، أو من رجل مسلم في العصر الحديث، حتى لا يقولوا: إنما أخذوا ما أخذوا من الغربيين.