وبهذا يتبين أن التبرك بأحجار مكة وتعظيمها أمر غير مشروع أبداً، إلا الحجر الأسود، الذي استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الركن اليماني، قال عمر: [إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك].
ولذلك كان استلام أعمدة الحرم وجدران الحرم وغير ذلك والتمسح بها، وحلقات الأبواب من فعل المشركين الذين يقعون في هذا الشرك بالتبرك بالأشياء التي لم يشرع التبرك بها.
وتنتقل البدعة من واحد إلى آخر؛ حدثني رجل قال: كنت في المسعى أسعى بين الصفا والمروة، فرأيت رجلاً يمسك حلقةً من حلقات أحد الأبواب، يتفرج عليها، قال: فوقف بعده واحدٌ آخر، وصار بدلاً من أن يمسكها للفرجة يمسحها، قال: وبعد عدة أشواط وجدت نفراً كثيرين متجمعين ليمسحوا بتلك الحلقة، فكل جاهل يرى مَن قبله يَمسح فيَمْسح، وهكذا يفعلون.
لقد كان أهل الجاهلية كما قلنا يلتمسون البركة من أصنامهم، وكان لهم صنم يقال له سعدٌ، وهو عبارة عن صخرة في فلاة من الأرض، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له ليقفها عليه التماس بركته، فلما رأته الإبل، وكانت مَرْعِيَّة لا تُرْكَب، وكان هذا الصنم يُراقُ عليه الدم، وتُنْحَر عنده الذبائح، فلما رأت الإبلُ ذلك نَفرَت منه، فذهبت في كل وجه، فغضب الأعرابي، فأخذ حجراً فرمى الصنم، وقال: لا بارك الله فيك، نَفَّرْتَ عليَّ إبِلِي، ثم خرج في طلبها، وعاد فقال:
أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا فشتتنا سعدٌ فلا نحن مَن سَعْدِ
وهل سعدٌ الا صخرةٌ بتَنُوفةٍ مِن الأرض لا يُدعى لِغَيٍّ ولا رُشْدِ
وهكذا فعل الجاهليون بأصنامهم.
ولذلك لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل صنم من يهدمه، ويحرقه ويزيل أثره، وعلى رأسهم سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد، وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهما، حتى إنه يُروى أن المغيرة بن شعبة لما خرج مع خالد بن الوليد لهدم اللات، وكانت عند أهل الطائف في ثقيف، انكفأ الرجال والنساء والصبيان، وخرجت العواتق ليرون هذا الذي سيَهْدِم صنمهم ماذا سيحل به؟ فأخذ المغيرة بن شعبة فأساً كبيرة، وقال لأصحابه: ألا أضحكنكم من ثقيف؟ قالوا: بلى، فضرب بالمعول ضربةًَ على اللات، ثم صاح وخَرَّ مغشياً على وجهه، فارتجت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صَرَعت المغيرة، وأقبلوا يقولون: يا مغيرة! كيف رأيتها؟! دُونَكَها إن استطعت! ألم تعلم أنها تهلك من عاداها، فوثب المغيرة يضحك منهم، وكان قد أتقن تمثيل دوره، ويقول: والله يا معشر ثقيف ما قصدتُ إلا الهُزْء بكم، إنما هي لَكاعِ؛ حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علوا سورها، فما زالوا يهدمونها حتى ساووها بالأرض، وأخذوا كنوزها وحليها وثيابها، فجاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى الأعرابيُّ ثعلباً يبول على صنم لبني سليم استهزأ به وعرف أنه ليس بإله.
وهكذا فعل الصحابي الذي هداه الله لما رأى صنمه مربوطاً بجيفة كلب مُدَّلى في بئر.
كانت تلك حال أهل الجاهلية.
فماذا فعل أهل جاهليتنا؟ لقد جعلوا بدل الأصنام قبوراً، وبدل بيت الصنم شباك القبر، وجعلوا ذلك الحديد الذي حول القبر مكان المَسْح، وأعتاب القبر تُقَبَّل، ويُحج إليه، ويذبح عنده، ويطاف به، وهكذا.