لقد أكثر العلماء من تبجيل عبد الرحمن بن مهدي حتى أن شيخه سفيان الثوري قال له: لو أن كتبي عندي، لأفدتك علماً.
قال ابن أبي حاتم: فقد بان بذلك جلالة عبد الرحمن عند الثوري، إذا بدأه بهذا القول.
فالمعروف أن الطالب هو الذي يطلب من الشيخ، لكن هنا الشيخ يقول: لو أن كتبي عندي لحدثتك، أو كأن سفيان يقول له: إنني أفيدك الآن من حفظي، لكن لو كانت كتبي عندي لحدَّثتك منها، فـ سفيان رحمه الله تعرض للمحنة، واضطر للهروب، واختفى فترة من الزمن، ما كان له فيها مجالس، وربما خشي على كتبه التي كتب فيها الأحاديث من التغيير، فدفنها، وقد تلف كثيرٌ منها حتى أنه جاء بعد مدة يستخرجها مع بعض تلاميذه من حفرة، فقال له أحد تلاميذه ممازحاً: وفي الركاز الخُمُس أعطنا خُمُس الكتب هذه.
فكأن سفيان يقول لـ عبد الرحمن إجلالاً له: أنا أعطيتك مما أحفظ، لكن لو كان كتبي عندي لأعطيتك منها أحاديث ربما ليست عندي في حفظي.
وقال حماد بن زيد: "إن كان يؤتى لهذا الشأن، فهو هذا الشاب".
أي: عبد الرحمن بن مهدي الذي يؤتى إليه.
فقال هذا الكلام بعدما قام عبد الرحمن من عنده.
وقال عبد الرحمن: "كُتِبَ عني الحديث في حلقة مالك بن أنس ".
وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى عبد الرحمن بن مهدي في مجلسه، تهلل وجهه.
وبلغ من اعتناء سفيان بتلميذه عبد الرحمن بن مهدي كما قال مهدي بن حسان والد عبد الرحمن: كان عبد الرحمن يكون عند سفيان عشرة أيام إلى خمسة عشرة يوماً بالليل والنهار متواصلة، فإذا جاءنا ساعةً -أي: يزور أباه وأمه وأهله- جاء رسول سفيان في أثره، فيقول: سفيان يدعوك، فيَدَعنا ويذهب إليه.
فكأن سفيان لا يريد أن يغيب عنه تلميذه عبد الرحمن.
أولئك أناس كانوا مخلصين في تعليم الناس، إذا رأى طالباً حافظاً، فهذه فرصة أن يُوْدِعَه علمه، إن وجده مخلصاً، حافظاً، ذكياً، ألمعياً، فاهماً، فهي فرصة أن يُعْتَنَى به، ولذلك من أسباب النبوغ عند السلف: أن الشيوخ يعتنون بالتلاميذ؛ ولو غاب التلميذ أرسل الشيخ في طلبه، لا يجلس الشيخ في برج عالٍ، يقول: الذي يأتيني أحدثه، والذي لا يأتيني لا أسأل عنه! وكان للشيخ خواص من الطلاب معه في سفره وحضره، في بيته ومجلسه ومسجده، ومعه في جميع الأماكن، كما كان سفيان يرسل رسولاً وراء عبد الرحمن بن مهدي إلى بيته.
ومن تقدير سفيان لـ عبد الرحمن بن مهدي: قال عبد الرحمن بن مهدي: أفتى سفيان الثوري في مسألة، فرآني كأني أنكرت فتياه بالنظر، أي: سئل سفيان عن مسألة، فأفتى فيها، فلاحظ سفيان في المجلس أن وجه عبد الرحمن بن مهدي فيه تغيُّرٌ ما، كأنه لَمْ تَرُقْ له هذه الفتوى، فقال سفيان لـ عبد الرحمن التلميذ: أنتَ ماذا تقول؟ قلت: كذا وكذا، خلاف ما يقول.
قال: فسكت ولم يقل شيئاً، وسكوت سفيان هذا معناه: إجلال لـ عبد الرحمن التلميذ، ولم يعترض على جوابه، ولم يرد عليه، فكأنه سلَّم له بالجواب، أو أقر بصحة جوابه.