مما تميز به عبد الرحمن بن مهدي: تمييز الحديث الصحيح من غيره بالخبرة.
قال نعيم بن حماد: "قلت لـ عبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث من غيره؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ".
كأنه يقول: كما أن المجنون لا يخفى على العادي فضلاً عن الطبيب، فكذلك الحديث الصحيح لا يخفى عليَّ من غيره، فأنا أميزه تمييزاً واضحاً، كما أن الطبيب يميز المجنون من غيره، أو ربما من المحتمل أنه إذا قصد بالمجنون المصروع، فإن الطبيب يعرف من حركات المصروع أنه مصروع، وقد يخفى على غيره، فكأنه يقول أنا أميز الأشياء الخفية كما يميز الطبيبُ المصروعَ، وربما لا يعرف شأنه إلا الطبيب.
ولذلك يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "معرفة الحديث إلهام".
قال ابن نمير: صَدَقَ، لو قلتَ: من أين؟ لم يكن له جواب، يعني: أحياناً الحديث المعلول لا يستطيع أن يقول لك الناقد إن سبب الضعف، أو العلة كذا، لكن يتكون عنده مع مرور الزمن، وطول الوقت حس وشعور خفي يدرك به أن هذا صحيح، وأن هذا معلول بحيث لو قلت له: ما هو سبب الضعف؟ لا يوجد راوي معين ضعيف يقول لك فيه مثلاً: فلان ضعيف، أو فلان كذاب، أو ما فيه انقطاع واضح حتى يقول لك: هذا الحديث الحسن عن عمر فيه انقطاع، ما هناك شيء مميز وواضح حتى يقوله لك عن سبب الضعف، لكن يوجد علة خفية، فالحافظ أو الناقد يعرف بحسه هذه العلةَ حتى من خفائها أنه لا يستطيع أن يشرحها لغيره بالخبرة، ومثلوا له بمثال، وهذا المثال ورد في قصة لـ عبد الرحمن بن مهدي.
قال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة حديثاً لا أسميه حديثاً، قال: فغضب له جماعة؛ لأن عبد الرحمن بن مهدي انتقده على هذا الحديث كيف يأتي به، فجاء هؤلاء البصريون أصحاب الرجل الذي حدَّث بالحديث والذي لا يثبت عند عبد الرحمن بن مهدي، وقالوا له: يا أبا سعيد! من أين قلت هذا في صاحبنا؟ بيِّن سبب ضعف الحديث الذي تدَّعي أن صاحبنا أخطأ.
قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج، يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! طبعاً الدنانير كانت تصنع من الذهب في الماضي والدراهم من الفضة، وكان هناك في سوق الذهب نُقَّاد أو صيارفة خبراء في الذهب، لو أعطيته دينار الذهب يقول لك: هذا صافٍ، أو مغشوش، أو مزيف بدون فحص كيميائي، ولا مختبري، ولا مكبرات، إنما بالخبرة، فهم عائلةٌ صاغَةٌ، أخذ هذا العلم في الصياغة عن أبيه عن جده، عائلة فيها هذا من كثرة الممارسة للصياغة والنظر في الدنانير، والوزن باليد، والصوت ونحو ذلك، فبالخبرة والنظر يعرف الصائغ المحترف أن هذا مزيَّف أو نقي، فشبهوا ذلك بعلم العلل الخفية، وبعض المحدثين يعلمون العلل بدون أسباب واضحة، لكن بالخبرة والحس التي تكون مع الزمن، والاشتغال وطول الممارسة، هؤلاء الصاغة يعرفون الدنانير الصحيحة من المزيفة بمجرد النظر أحياناً، فقال لهم لَمَّا قالوا: هات، بيِّن لنا سبب ضعف حديث صاحبنا البصري، فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج -مزيف- يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم، تعال اشتغل في الحديث عشرين سنة مثلما أنا اشتغلت، ثم تميز مثلي.
وهذا بطبيعة الحال شيءٌ يستقر في نفوس كبار الحفاظ والنقاد والمحدثين، فيعرفون بعض الأحاديث بالخبرة.
ولذلك قال عبد الرحمن بن مهدي: "معرفة الحديث إلهام"، أي: شيء يقذفه الله في نفس الشخص، ومع الخبرة والممارسة يكون له بصيرة فيه.
ونقد الدراهم والدنانير التي يعرفها هؤلاء الصاغة من غير فحصٍ، بل يعرفونها بالمعاينة، وكذلك يميز أهل الحديث وبعض النقاد وبعض العلماء من المحدثين بعلم يخلقه الله في قلوبهم بعد طول الممارسة للحديث والاعتناء به.
وعبد الرحمن بن مهدي واحد من هؤلاء قطعاً.