كان من تواضع ابن هبيرة رحمه الله أنه إذا استفاد شيئاً، قال: أفادنيه فلان، وهذا من أدب طالب العلم، أنه إذا استفاد فائدة من شخص يذكر الذي أفاده هذه الفائدة، فعَرَض له يوماً حديث: (من فاته حزبٌ من الليل، فصلاه قبل الزوال كان كأنه صلى بالليل) فقال: لا أدري معنى هذا، لم أفهم وجه الحديث.
فقال ابن الجوزي: هذا ظاهرٌ في اللغة والفقه.
أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة؟ إلى وقت الزوال.
وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل.
فأعجبه هذا القول، وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدري معنى هذا الحديث حتى عرَّفنيه ابن الجوزي، فكنت أستحي من الجماعة، يقول: إذا جاء للوزير يقول العالم الوزير: أفادنيه ابن الجوزي بين الجماعة، فأستحي من هذه الكلمة.
ورتب الوزير ابن هبيرة لـ ابن الجوزي درساً في داره كل يوم جمعة.
ومن تواضعه أيضاً: أنه سمع مرة أحد الفقراء يقرأ القرآن في داره، فأعجبته قراءته، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي -أي: الوزير ابن هبيرة يزوج ابنته لذلك الفقير، فغضبت زوجته.
وكان يُقرأ الحديث عنده كل يوم بعد العصر.
وكان يكثر مجالس العلماء والفقراء وكانت أمواله مبذولةً لهم.
وكانت السنة تدور وعليه ديون، ولذلك قال: ما وجبت عليَّ زكاةٌ قط، لأن كل الدخل الذي كان يأتيه -مع أنه كان دخلاً كبيراً في هذا المنصب- كله يذهب لأعمال البر وصلة العلماء، وبذله لأهل العلم، ولذلك كان لا تدور عليه السنة إلا وهو مدين، ولذلك قال بعض الشعراء فيه:
يقولون: يحيى لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلُه
إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته من المال إلا ذكره وفضائلُه
ومن تواضعه: أنه كان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وكان يقول: نزلت يوماً إلى دجلة، وليس معي رغيفٌ أعبر به -يقول: جاءتني أيام ما عندي رغيف.
يقول هذا في حال الوزارة بعد أن صار في ذلك المنصب، وإذا رأيت رجلاً صار ذا مال أو ذا منصب يذكر فقره أو حاله الأول من الضعف وهو في حال القوة والغنى، فهذا في معدنه خيرٌ عظيمٌ.
ودخل عليه يوماً تركياً -وكان الأتراك قد أتي بهم وجُلِبوا إلى المملكة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا جنوداً حتى صاروا عماد جيش الدولة- فقال لحاجبه: أما قلتُ لك: اعط هذا عشرين ديناراً ووِقْراً من طعام، وقل له: لا تحضر هاهنا؟ فقال: قد أعطيناه.
فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر، ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم تريبون بسبب هذا.
أي: عندكم ريبة الآن مني؛ لأني أقول له: اعطه، وقل له: لا يعود.
قالوا: نعم.
قال: هذا كان في القرى، فقُتِل قتيل قريباً من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى، وأخذني مع الجماعة -يبدو أنه كان شرطياً، فلما قُتل القتيل هذا التركي، جمع مشايخ القرى، وكان ابن هبيرة مع المحشورين قبل أن يتولى الوزارة- قال: وأمشاني مع الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني، ثم أخذ من كل واحد شيئاً وأطلقه -أي: رشوة- ثم قال لي: أي شيء معك؟ قلت: ما معي شيء، فانتهرني، وقال: اذهب، فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته.
وفي رواية لهذه القصة أنه قال: إنني سألت هذا التركي في الطريق أن يمهلني لأصلي الفرض، فما أجابني وضربني على رأسي، وكان رأسي مكشوفاً، فكنتُ أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة لا لكونه قبض عليَّ، فإنه كان مأموراً.
ولذلك لما جاءه التركي، قال: أعطوه مالاً، وأعطوه كذا، وقولوا له: لا يأتي، فكان يقول: إنني لم أنقم عليه لأنه أمسك بي، لكنني نقمت عليه لأنه لم يمهلني حتى أصلي فرض الصلاة.
وكان بعض الأعاجم قد شاركه في زراعة، وآل الأمر إلى أن هذا الأعجمي ضرب الوزير -قبل أن يتولى الوزارة- وبالغ في ضربه.
ولما وَلِي ابن هبيرة الوزارة، أتى بالأعجمي وأكرمه ووهب له وأعطاه، مع أنه كان قد أساء إليه، الآن هذه فرصة للانتقام؛ لأنه صار صاحب قدرة وقوة.