وقد أثنى العلماء -رحمهم الله تعالى- على الحسن بالغ الثناء:- ولما استهل أبو نعيم في الحلية ترجمة الحسن البصري رحمه الله، قال: "ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاًَ، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً".
والوقيذ أو الوقذ: أن يُضرب الشيء حتى يسترخي ويموت، أو يشرف على الموت، فكان لشهوته كابتاً.
وعن علقمة بن مرثد قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فمنهم: الحسن بن أبي الحسن، فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، ما كنا نراه إلا أنه حديث عهد بمصيبة".
قال الحسن: [نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئاً].
كان مشهوراً جداً بالمواعظ، وكانت مواعظه مؤثرة، لأن العبارات رقيقة تخرج من القلب، وعلى رسم الكتاب والسنة، [ويحك يابن آدم! هل لك بمحاربة الله طاقه، إنه من عصى الله فقد حاربه، واللهِ لقد أدركت سبعين بدرياً، أكثرُ لباسهم الصوف -أي: من زهدهم في الدنيا لا يجدون ولا يحرصون على التنعم- ولو رأيتموهم لقلتم: مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب، ولقد رأيتُ أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ما يجد عنده إلا قوته، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضٍ وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه].
يعني: هذا المتصدِّق محتاج أكثر من المتصدَّق عليه؛ لكن يجودون لله تعالى.
وعن خالد بن صفوان، قال: لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بـ الحيرة، قال: يا خالد! أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم مَن قِبَلي به: أشبه الناس سريرةً بعلانية هذا أولاً، السريرة تطابق العلانية؛ لا رياء، ولا نفاق، ولا كذب، ولا تصنع، ولا مجاملات.
- وأشبه قولاً بفعل.
قوله يشبه فعله، لا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، قوله وفعله مستويان متطابقان.
- إن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه.
- وإن أمر بأمر كان أعْمَلَ الناس به، وإن نهى عن شيء كان أَتْرَكَ الناس له.
- رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه.
قال: حسبك يا خالد! كيف يضل قومٌ هذا فيهم؟! فإذاً: الصالحون والعلماء والعباد والزهاد هم سراج وهاج يستضيء بهم الناس، والناس لا يهلكون وفيهم مثل هؤلاء، متى يهلك الناس؟ إذا انطفأت السرج، وإذا لم يوجد أحد ينير كيف يبصر العميان؟ ولذلك فإن وجود الدعاة في المجتمع رحمة لهذا المجتمع من عدة جهات: أولاً: أنهم من أسباب رفع العذاب عنهم: إذا وجد الصالحون والمصلحون في مجتمع فهم من أسباب رفع العذاب عن المجتمع.
ثانياً: بهم يرزقون، وبهم يمطرون.
ثالثاً: هم مصدر العلم، ومنهم يتعلم الجهَّال.
رابعاً: هم مصدر الوعظ الذين يعظون الغافلين.
خامساً: هم مصدر القدوة.
سادساً: تنصلح أحوال الناس بمخالطتهم.
ولذلك كلما كثروا في المجتمع كان دليلاً على صلاح المجتمع وصحته، وإذا قلوا أو انعدموا فهذا دليل على مرض هذا المجتمع أو موته.
ولذلك يجب أن نحرص على تكثير الدعاة في المجتمع، ونفرح إذا رأينا عدد الصالحين في المجتمع يزيد؛ لأن هذا من أسباب سعادة المجتمع، أما إذا رأيت الصالحين ينقرضون ويقلون ويذهبون، ولا يأتي غيرهم، فهذا نذير شؤم وبلاء خطير.
وبعض الناس لا يقدرون قيمة الصالحين في المجتمع، ولذلك ينابذونهم العداء يجهلون قدرهم يذلونهم يسخرون منهم يستهزئون بهم، لا يعطونهم ما يجب لهم من الحق، ولا يقدمونهم في المجالس ويسمعون لكلامهم، فلذلك ترى أمر هؤلاء الصالحين في ضعف؛ لأن الناس لم يعرفوا قيمتهم، ولم يعرفوا قدرهم.
وأما إذا عرف المجتمع قدر الصالحين رأيتهم يُقَدَّمون في المجالس يقدمون في الحديث يُسْمَع لكلامهم يُنْزَل عند رأيهم، ويُبَتُّ حسب مشورتهم وأمرهم، ولذلك قال مسلمة لـ خالد بن صفوان: كيف يضل قوم هذا فيهم؟! وفي سير أعلام النبلاء يقول الذهبي: "كان الحسن سيد أهل زمانه علماً وعملاً".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الإمام الفقيه المشهور، أحد التابعين الكبار الأجلاء علماً وعملاً وإخلاصاً".
وقال العوام بن حوشب: "ما أشبه الحسن إلا بنبي".
وعن أبي قتادة، قال: "الزموا هذا الشيخ -أي: الحسن - فما رأيت أحداً أشبه رأياً بـ عمر منه".
يعني: من رجاحة عقل الحسن شبه رأيه برأي عمر.
ويقال: إن أنس بن مالك، قال: [سلوا الحسن فإنه حَفِظَ ونسينا].
وهو الصحابي! وقال مطر الوراق: "لما ظهر فينا الحسن جاء كأنما كان في الآخرة".
فهو يخبر عما عايَن.
كأنه واحد كان في الآخرة، كان في القبر ورأى البرزخ ورأى الموت والجنة والنار، والبعث والميزان والصراط، فكأنه واحد جاء من الدار الآخرة، فهو يخبر الناس عما رآه هناك.
فهذا يكون من شدة تمثله لما أخبر الله به عن الدار الآخرة، كأنه جاء من الآخرة، وهذا يدل على تأثره.
وقال قتادة: [ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه -يعني: علم الحسن زائد- غير أنه إذا أُشْكِل عليه شيء كَتَبَ فيه إلى سعيد بن المسيب -وسعيد بن المسيب سيد التابعين- وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن].
وقال أبو هلال: [كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غُمِسَ في العلم غَمْساً، قال قتادة: بل نَبَتَ فيه، وتحقَّبه، وتشرَّبه، والله لا يبغضه إلا حروري].
والحروريون هم: الخوارج، نسبة إلى بلدة حروراء، التي كان أول أمرهم بها، خرجوا منها وفيها، ولذلك لا يبغض الحسن إلا رجل من الخوارج.
وقال: [ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن].
فالرجل كان بالإضافة إلى أدبه صاحب مروءة.
وعن حجاج بن أرطأة عن عطاء: قال: [عليك بذاك -أي: الحسن - ذاك إمام ضخم يُقتدى به].
وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام.
وقال بكر المُزَنِي: "مَن سره أن ينظر إلى أفقه ممن رأينا، فلينظر إلى الحسن ".
كان في حلقة الحسن البصري التي في المسجد حديث، وفقه، وعلم القرآن، واللغة، والوعظ، فبعض الناس صحبه للحديث ليسمع منه المرويات، وبعض الناس صحبه للقرآن ليسمع منه التفسير، وبعض الناس صحبه للبلاغة ليتعلم منه اللغة والفصاحة والبيان، وبعض الناس صحبوه للوعظ ليتعلم منه الإخلاص والعبادة.
وقال أيوب السختياني: "لو رأيت الحسن، لقلت: إنك لم تجالس فقيهاً قط".
لنسيتَ كلام الفقهاء بجانب كلامه.
وقال الأعمش: "ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها".
لأن الكلام الذي فيه حكمة لا يخرج إلا من رجل ارتضعها ووعاها فنطق بها.
وقال رجل لـ يونس بن عبيد: "أتعلم أحداً يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحداً يقول بقوله، فكيف يعمل بمثل عمله؟! قال: صفه لنا، أنت رأيته هذا فائدة تربوية: الأجيال كانت تسأل عمن فات، فالذي لم ير الحسن يسأل من رأى الحسن، يقول: صفه لنا، كيف هو؟ كيف شكله؟ كيف سَمْته؟ كيف عبادته؟ كيف وعظه؟ هات من كلامه شيئاً، هات من علمه من فقهه ماذا سمعت منه؟ الآن ربما يموت العالم ويخرج رجل من جيل جديد لم يرَ هذا العالم هل يسأل عنه؟ هل تراه يهتم بالجيل الذي مضى؟! يقول لواحد من الذين عاصروا العالم أو عايشوه: صفه لنا، كيف سَمْته؟ كيف كلامه؟ هات لنا مسائل مما سمعته منه، نادراً! وهذه مشكلة؛ أن الأجيال لا تحرص على الارتباط بمن سبق، والسؤال عمن سبق، كان الواحد من السلف إذا ما رأى رجلاً فاضلاً صالحاً عالماً، فاته، مات قبل أن يولد هذا مثلاً، يسأل عنه: صفه لنا مهتم.
قال: كان إذا أقبل -إذا رأيته آتٍ- فكأنه أقبل من دفن حميمه -كأنه الآن دفن أحب الناس إليه، كيف يكون وجه المصاب بالمصيبة؟ هكذا كان وجهه من الخشوع- وكان إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه -لو أتي بالأسير ليضرب عنقه، كيف يكون جلوسه؟ متخشعاً، هكذا كان جلوسه، لم يكن جلوسه جلوس أشر ولا بطر- وكان إذا ذُكِرَت النار عنده، فكأنها لم تخلق إلا له.
بينما بعض الناس الآن لو تليت عليهم الآيات التي فيها ذكر جهنم، يقول: هذه للكفار، الحمد لله نحن مسلمون، ولا نحتاج، ولسنا معنيين بالأمر، مع أن الإنسان ينبغي أن يخاف على نفسه لأنه لا يدري ماذا يختم له، فقد يُختم له والعياذ بالله بخاتمة أهل النار، فإذاً: لا بد أن يخاف على نفسه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: [أما بعد: فإنك لن تزال تعنِّي إليَّ رجلاًَ من المسلمين في الحر والبلاد، تسألني عن السنة كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيْمُ الله لحسبك بـ