كان أبو عبيد -رحمه الله تعالى- يفرح فرحاً شديداً لتحصيل العلم والفائدة، حتى ربما حرمه الفرح من النوم، فقال عن نفسه::كنت في تصنيف هذا الكتاب غريب الحديث أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب -أفواه الرجال أي: العلماء- فأبيت ساهراً فَرِحَاً فَرَحَاً مني بتلك الفائدة- مِن الفَرَح بالفائدة التي حصَّلها ودوَّنها في كتابه غريب الحديث ربما ما جاءه النوم.
ومِن حرصه على الفائدة: القصة المشهورة التي حدثت له في زيارته للإمام أحمد -رحمه الله- وهي قصة جميلة، قال: زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه في بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس -وهذا يدل على محبة أحمد لـ أبي عبيد القاسم بن سلاَّم - فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: -أي: في الأثر- (صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر دابته أو مجلسه) أي: صاحب البيت أحق بصدر البيت من الضيف أو من أي شخص آخر، وكذلك الدابة أولى بصدر الدابة من الشخص الآخر، لأنه صاحب الحق، فلا يجوز للضيف أن يعتدي ويجلس في صدر المجلس بدون إذن صاحب البيت.
قال الإمام أحمد: نعم، يَقْعُدُ ويُقْعِدُ مَن يريد، أي: ما دام أنه صاحب الحق فلو أقعد مَن يريد فلا حرج على هذا الضيف من أن يجلس في صدر المجلس، فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة.
ثم قلت: "يا أبا عبد الله! لو كنتُ آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم" أي: لو كانت زيارتي لك بقدر حقك علينا وعلى قدر ما يليق بك من منزلة لرابطنا كل يوم عندك وأتيناك، فقال: لا تقل ذاك! فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم.
قال: قلت: هذه فائدة أخرى يا أبا عبيد.
فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله أي: اجلس مكانك وارتاح ولا داعي أن تقوم معي، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه.
قال: قلت: يا أبا عبد الله مَن عَن الشعبي؟ أي: من حدثكم عن الشعبي هذه العبارة- قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد عن الشعبي.
قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة، ثلاث فوائد.
فكان يفرح بالفوائد ويجمعها ويراجعها، ويعدد الفوائد واحدة واثنتين وثلاث حتى لا ينساها.
وقد أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وكان يطلب عليه العلم، فقال زيدٌ متواضعاً: [أتُمْسِكُ بي -يعني: بركاب دابتي- وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنتم آل البيت لكم حق- فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إنا هكذا نصنع بالعلماء].