كان يكثر ذكر الله تعالى حتى وهو على الطعام وبين اللقم، كان ورعاً في الفتوى، كثيراً ما يقول: ننظر فيها -تحتاج إلى تأمل- اكتبها للجنة ونبحثها مع الإخوان، ولا يستنكف أن يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس -وسمعته بنفسي-: المسألة مشتبهة علي.
ولا يجيب، وكم من مرة سألته فيتوقف عن الإجابة، ولو عُرضت على طالب علم صغير لتسرع فيها! كان صاحب خشية لله سريع الدمعة شديد التأثر يقطع درسه بالبكاء لما يغلبه، لا عجب في ذلك، فقد قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يقطع الجواب لإجابة المؤذن، ويستدرك ما فاته من الأذان لو سهى وأكمل المكالمة، ولا يفوت الذكر بعد الصلاة بالرغم من كثرة السائلين حوله، ويقطع الكلام مع الشخص عند الخروج من المسجد لأجل أن يقول الذكر.
كان عادلاً حتى بين زوجتيه، له زوجتان بلغ من عدله أنه لا يصلي سنة المغرب البعدية إلا في بيت التي هو عندها الليلة، فيبدأ من بداية الليلة من بعد المغرب ومن بعد صلاة الجماعة، فلا يصلي سنة المغرب إلا في بيت التي هو عندها.
هذه شفاعاته لا تعد ولا تحصى، أدى زكاة جاهه كما أدى زكاة علمه رغبة في قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) -نحسبه كذلك- شفاعاته للكبار والصغار، كم من طالب قبل في جامعة، وكم من فقير حصل على صدقة، وكم من عامل استقدم زوجة، وغير ذلك كثير كثير من شفاعات أبي عبد الله، نسأل الله أن يجعلها في ميزانه يوم يلقاه.
لما كان قاضياً وبعد القضاء يسعى بالصلح بين الأزواج والزوجات، والإصلاح بين المتخاصمين، كان حليماً عفواً سمحاًَ متسامحاً، دخل عليه أيام كان قاضياً بـ الدلم رجل سباب فسب الشيخ وأفحش، والشيخ ساكت لا يجيب، ثم سافر الشيخ للحج فمات ذلك الرجل، فلما قدموه لصلاة الجنازة أبى إمام ذلك المسجد وكان يعرف الواقعة، وقال: لا أصلي على شخص يشتم العالم، صلوا عليه أنتم، ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل الذي سبه والقصة، ترحم عليه وعاتب الإمام، وقال: دلوني على قبره، فصلى عليه ودعا له، وقلت له قبل موته بأيام: أريدك يا شيخ أن تسامحني وتحللني، فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك أو تقصير أو إخلال في فهم كلامك والنقل عنك.
فقال لي: مسامح، مسامح، سامحك الله هذا هو طبعه: المسامحة، وهذا من أسباب اجتماع القلوب عليه ومحبة الناس له، أنه لم يكن يصادم، ولم يكن يرد بسفاهة، وإنما كان حليماً رحمه الله.
كان متأدباً حتى مع كتَّابه، فمرة أطال إلى الساعة الحادية عشرة ليلاً، ثم قال: يبدو أنا قد تعبنا؛ مع أن الشيخ لم يتعب، ولكن قال ذلك مواساة للكاتب الذي كان يكتب معه، فتأخر إلى هذا الوقت، وهو الذي كان من أصحاب العبادات والطاعات.
قال أحد الذين رافقوه من الطائف إلى الرياض براً: لما صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية عشر ليلاً قال لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا، قفوا لننام في الطريق، فتوقفنا، فما لامست أقدامنا الأرض إلا وأخذنا النوم، والجيد منا من صلى ركعة أو ثلاث قبل أن ينام، فشرع الشيخ في الصلاة فاستيقظ الذين كانوا معه قبل الفجر، فإذا بالشيخ يصلي، كذا جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يضحك الله إليهم.