كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا.
من واقع ماذا؟ يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه.
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.