ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـ جليبيب، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـ جليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور.
ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل.
ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح، فقال عمر: إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح: لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها.
فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة.
وقد وقعت لـ ابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر: توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون.
قال عبد الله: وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها.
ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة، وولي البنت زوجها لـ عبد الله بن عمر، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة).
أخرجه الإمام أحمد والدارقطني، وهو حديث صحيح.
هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.