كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله.
فمثلاً: في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة.
وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.
فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا.
فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين.
وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا.
بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً].
ولذلك قال المسور: [فما رأيت مثل عبد الرحمن، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].