الواحد لو ظل معافى خمسة أيام، يمكن أن يخشى المرض، ولو بقي شهراً أو سنة ما أصابه مرض، كل هذا الطول في الزمن هو أيضاً يستبعد بازدياد أن يحدث له مرض، وهذه بالضبط مشكلة الناس عندما يكبرون في السن، فيرى نفسه الآن عاش عشرين سنة، أو أربعين سنة فيقول: إيه باقي! يقول: عشت أربعين، ما دام عاش أربعين بالنظر إلى الماضي يقول: ستين، فأمله يزداد في العيش لأنه عاش وما حدث له شيء، فهو إذاً يأمل يأمل وهذا الذي يقتل الناس فما هو الأمل المحمود والأمل المذموم؟ الأمل المحمود: هو أن يأمل في الخير وهذا جيد، لكن الأمل المذموم هو الذي يدعو إلى التسويف كما سيمر معنا.
فالعاقل الذي يأخذ بالاحتياط، فإذا مرض أو افتقر فعنده رصيد والحمد لله، إذا ما مرض أو افتقر لا يتضرر! الناس أنواع: طالب وموظف، وأعزب ومتزوج، وصغير وكبير، هناك بعض الناس الذين يعيشون في نوع من العافية، لا يفكرون في المستقبل وهذه هي المشكلة، فمثلاً: الطالب يظن أنه في المستقبل إذا تخرج من الجامعة فإنه سيكون لديه وقت أطول، وسيتحرر من الدراسة ومن الامتحانات وأن الوقت سيتسع بالنسبة له، لكن في الغالب لا يكون ذلك، وتمر بالموظف أوقات يتمنى أن يكون فيها في حياة الدراسة، دع الآن موظفاً يدخل الجامعة التي درس فيها قبل عشر سنوات، ماذا سيكون شعوره؟ سيقول: أين أيام زمان! أيام كان الواحد ليس عنده مسئوليات، أيام كان الواحد عنده عطلة الربيع وعطلة صيفية، وعطلة خميس، بالنسبة للناس الذين في وظائفهم عطلة خميس، ويقول: الدراسة -تنتهي- مثلاً الساعة الثانية، لكن العمل يستمر حتى الليل أحياناً.
لكن عندما تذهب إلى الطالب يقول: الآن عندي خطط في طلب العلم، وعندي خطط في الدعوة، وعندي خطط في صلة الرحم، وعندي خطط، انتظر حتى أتخرج وأتفرغ من همّ الدراسة وهمّ الامتحانات، وأتفرغ إن شاء الله وأفعل هذه الأشياء كلها، وأنفذ المخططات، لكن عندما يتخرج تقع الواقعة، فينشغل بالوظيفة، والوظيفة ليست سهلة، الآن الوظائف مع مرور الزمن تتعقد ويحصل فيها من الصعوبة أكثر من ذي قبل! ولذلك لا تفكر أبداً وأنت طالب أنك إذا دخلت حياة الوظيفة، أنك ستدخل عالماً من الفراغ الذي ستستغله في كثيرٍ من الأعمال الصالحة، بل إنك وأنت طالب عندك من الإمكانيات ما ليس عند الموظف، فلا تغتر واغتنم فراغك قبل شغلك.
أنت الآن لم تتزوج بعد، الواحد أحياناً يقول: الآن عزوبية، والأوقات مختلطة، لكن غداً أتزوج وأجلس في بيت وأستقر، وسيصير عندي وقت كبير، لكن فكر الآن في قضية الزواج، الزواج مسئولية وسوف يأتيك أولاد، وتحدث عندك روابط اجتماعية، وستزور أهل الزوجة، وعم الزوجة، وعمتها، وخال الزوجة، وخالتها، وأقرباءك الذين لم تكن تعمل لهم حساباً، ستضطر أن تعمل لهم حساباً بعد الزواج، الإنسان عندما يكون فرداً قد لا يزور بعض أقربائه، لكن عندما يتزوج طبيعة الوضع تفرض عليه، سيأتيه أقرباء له بزوجاتهم ليتعرفوا على زوجته، وهو يضطر لأن يزورهم أيضاً، ويدخل في معمعة من الزيارات العائلية، ويضطر لحضور مناسبات كثيرة، لأنه متزوج، طبعاً، والزواج ليس سيئاً لكن نقول: اغتنم فراغك قبل شغلك، الزواج عبادة، يفتح لك أبواباً من الأجر، لكن هناك أشياء تستطيع أن تفعلها قبل الزواج ولا تستطيع أن تفعلها بعد الزواج، هناك عبادات تستطيع أن تستكثر منها قبل الزواج ما لا تستطيع أن تستكثر منها بعد الزواج.
مثلاً السفر في طلب العلم: الآن إذا تزوجت قد يصعب عليك أن تقوم بهذه العبادة، وعندما يكون لك أولاد كثيرون يصعب عليك دائماً أن تأتي بعمرة وراء عمرة، لكن عندما تكون فرداً يسهل عليك أن تخرج كثيراً، قد تبيت في مكان آخر لتواصل عبادة أو طاعة أو طلب علم؛ لأنه ليس لك زوجة، لكن عندما يصبح عندك زوجة يجب أن ترجع إلى العش وتبيت فيه، وسيصعب عليك أن تترك الغداء عند أولادك وعند أهلك، لكن عندما تكون طليقاً من هذه الناحية يمكن أن تفعل أشياء لا تفعلها في حال الزواج، ستنشغل في بناء بيت! وقد تنشغل في مشروع تجاري إضافي، وقد تنشغل في شراء أغراض، فالذين عندهم أولاد لو فكر أحدهم فقط في قضية تطعيم الأولاد، وكل ما مرض ولد تريد أن تأخذه إلى المستشفى، هذه لوحدها بند كبير في الأوقات المصروفة، وكذلك شراء الأغراض من السوق واستئجار بيت، وتأثيثه، وتوفير مال لشراء سيارة ودفع لفواتير الهاتف والكهرباء، وشراء للملابس، وهناك حاجات كثيرة جداً ستستهلك الوقت، لا تحسب أنك في المستقبل ستتفرغ أكثر، الآن استغل الوقت.
أيضاً من الأشياء الأخرى: الإنسان عندما تكبر مسئولياته الاجتماعية، ويصبح عدد أفراد أسرته أكثر أو -مثلاً- يكبر أبوه ويصبح غير قادر على العمل، وتزداد الرعية واحداً، سيحتاج إلى أن يصرف على بيت ثانٍ، وهناك أناس كانوا يصرفون على بيت، وأصبحوا الآن يصرفون على بيتين، وقد يصرف على ثلاثة بيوت، فيضطر أن يعمل عملاً إضافياً في المساء، أو يشترك في مشروع تجاري غير الوظيفة من أجل أن يلاحق المسئوليات.
لا تظن أنك ستجزم أنك تتفرغ في المستقبل أبداً، الآن قد يكفيك راتب لشراء السلع لكن ما تدري غداً تقل الرواتب أو أن السلع ترتفع أسعارها! مع التضخم الذي يعيشه العالم اليوم، فالشيء الذي ستشتريه الآن بعشرة ريالات في المستقبل قد لا تشتريه إلا بخمسين ريالاً، وستضطر أن تعمل أكثر لتكسب أكثر، لكي تستطيع أن تشتري.
هذا الاضطرار قد يكون مذموماً؛ لأنه انشغال بالدنيا عن الآخرة، لكن أحياناً هناك أشياء ملجئة فعلاً وتعتبر عبادة، أنك تصرف على بطون جائعة، وعلى أناس محتاجين، لكن هذه العبادة قد تشغلك عن عبادة أخرى كنت تستطيع أن تعملها في الماضي!