من مراعاة الشعور لو حصل شيء يخجل المرء، كيف يعالجه؟ مثال: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:) إذا أحدث أحدكم في صلاته) وهذا موقف محرج، تصور شخصاً واقفاً في الصلاة، وخرجت منه ريح، أو أنه سجد وخرجت منه ريح، ماذا يفعل؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) لماذا؟ كأنه أصابه الرعاف، لأنه لو ما فعل كذا وخرج، يقول الناس: هذا فعلها في الصلاة، لكن عندما يخرج ويده على أنفه يظن الناس أن به رعافاً.
والله الذي لا إله إلا هو! إن هذا لدين عظيم، ووالله الذي لا إله إلا هو لا تجدون هذا عند اليهود أو النصارى أو سائر أصحاب الديانات، بل ولا عند أصحاب الأدب أو من ليس عندهم أدب؛ لأن هذا شيء خاص بعظمة هذا الدين.
وقد يقول قائل: ليتك ما علمتنا وما أعلنت هذا، فلو رأينا من يخرج من الصف نقول: أكيد أنه كذا وكذا، لكن بعض أهل العلم قال: لو رأيت رجلاً خرج من الصف وهو على هذه الحال هل تجزم أنه قد أحدث في الصلاة؟ لا.
لأنه قد يكون رعف فعلاً، فما زال في الأمر احتمال، فمع هذا الحديث إلا أنك لا تستطيع الجزم بالحال التي هو عليها.
في حديث صحيح آخر -لولا أن الصحابي قاله- قد تستغربون من لفظه، فيه لفظ بعض الناس يظنون أنه شَين في الحديث، فيقولون: كيف تقوله في المسجد؟! لكن لأنه حديث صحيح رواه الطبراني في الأوسط عن جابر، وهو في صحيح الجامع (نهى صلى الله عليه وسلم عن الضحك من الضرطة) قد يكون بعض الناس جالسين في المجلس، ثم يحدث شخصاً حدثاً فيه صوت، ماذا يفعل الناس؟ يضحكون، على ماذا؟ على هذا المسكين.
هذا مسكين عنده غازات، لا يملك نفسه وليس متعمداً، عدل الجلسة فإذا به يخرج منه هذا: (فعلام يضحك أحدكم مما يفعل؟!)، أي: هذا الشيء قد يحدث منك ومن غيرك، فلماذا تضحك على أخيك المسلم؟ فاستمر في حديثك وكأنه لم يحدث شيء، وهذا من الآداب، حتى لا يُحرج الرجل القاعد، فلو ضحكوا عليه لعله يترك المجلس ويذهب.
كذلك لو وقع شخص وقعة مشينة، أو تعثر فوقع ماذا يفعل الناس؟ يضحكون عليه، عن الأسودي قال: (دخل شباب من قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بـ منى وهم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب -هذا شخص في الحج تعثر بحبال الخيام ووقع، وكاد أن يجيء على عينه، فهؤلاء الشباب ضحكوا- فقالت: لا تضحكوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) انظر إلى رحمة الله، وجع في ضرس، أو صداع في الرأس، أو مغص في البطن، يكفر عنك السيئات، أين تجد هذا في أي دين؟ ومن هذا الباب أيضاً -عدم إحراج الناس- قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين)، وفي رواية: (لا تديموا النظر إلى المجذومين) أي: الذي به جذام أو برص أو أي تشوه في الخلقة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين) إذا رأيت أبرص أو من فيه بهاق أو مجذوماً لا تحدق فيه، لماذا؟ بعض الناس قد يقول حتى لا تنتقل إليك العدوى، وهذا ليس بصحيح، لكنَّ السبب حتى لا تحرجه.
إذا جاء رجل مصاب بالبرص أو غيره فدخل وجلس، فجعل الناس ينظرون إليه.
فماذا يحدث في نفسه؟ يحزن.
ومن الغرائب أني ذات مرة قلت هذا الحديث في مسجد، وكان رجل يجلس وفيه هذا المرض، وليس أحد من الناس ينظر إليه فلما قلت هذا الحديث إذا بالذي بجواره ينظر إليه بنوع من الاحتقار، وكأن الواحد يقول: ما أصابني الذي أصابك، أين أنا وأين أنت؟ وهذا ابتلاء من الله، يمكن أنه الآن كُفّرت عنه سيئات كثيرة هي ما زالت على ظهرك.
انظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى أحد الصحابة قد أصابه الأذى.
كعب بن عجرة جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحرام، قال: (فحُمِلتُ إليه والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام ملطفاً عليه: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى -أي: لم أكن أتوقع أن يصل بك الحال إلى ما أنت عليه الآن- أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]-تخفيف من الله على عباده- فقال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعام لكل مسكين، قال: فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، فقال عليه السلام: احلق رأسك واذبح أو صم أو أطعم) مع أنه في الإحرام لا يجوز حلق الشعر، لكنه مسكين القمل قد آذاه.
من مراعاة الشعور أيضاً المرأة البكر، إذا جاء القاضي يسألها أمام الناس، يقول لها: ترضين بفلان؟ هل تتوقعون امرأة بكراً تقول أمام القاضي: نعم أرضى بفلان، وأمام العالم والناس؟ بل تسكت، كيف يعرف القاضي أنها موافقة؟ بالسكوت، ولذلك عليه الصلاة والسلام قال: (ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف أذنها؟ قال: أن تسكت -وفي رواية-: إذنها صماتها) إذا سكتت فهي موافقة، وإذا رفضت ستقول: لا.
فلماذا جعل الصمت؟ حتى لا تحرج هذه المرأة المسكينة، انظر إلى الإسلام كيف يراعي الشعور.
مثلاً: الزوجة تريد أن تلعب.
الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي صغيرة، والمرأة وهي صغيرة تحب اللهو واللعب في حدود الشرع، فلا يأت واحد يغلق عليها ويحجر، ويقول: ممنوع أن تلعبي أو تقومي أو تتحركي من مكانكِ، بل تغسلين، وتطبخين، وتكنسين فقط، وليس لك غير هذا.
لا، لا يصلح هذا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يداعب نساءه، وكان يداعب عائشة، وأم سلمة، ويمازحهم، ويتكلم ويتلطف معهم، ومرة سابق عائشة في السفر، قال للصحابة: تقدموا، حتى لا يراهم أحد، فسابق عائشة.
عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -كانت عندها دمى تلعب بها- قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكنَّ ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يحدث نوع من الخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليّ) يدخلهنَّ على عائشة يلعبن معها.
لو أنَّ ناساً مخلصين عملوا عملاً ولم ينجحوا، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من غزية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غزية أو سرية تخفق وتصاب إلا كَمُلَ أجرها) أخفقوا ولم ينتصروا فلهم الأجر كاملاً، والذين انتصروا وأخذوا المغانم لهم ثلثي الأجر.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيما مسلم رمى بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) فلو كان معك بندقية وجاءك أعداء المسلمين، وأطلقت عليهم، أصبت أو لم تصب كأن لك من الأجر مثل رقبة أعتقتها من ولد إسماعيل، حديث صحيح رواه الطبراني عن عمرو بن عنبسة.
وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في مراعاة شعور الناس الذين يريدون أن يخرجوا للجهاد وما استطاعوا: (إن في المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) أي: أصبح لهم الأجر مع أنهم قاعدون، لكنهم لا يستطيعون الذهاب للجهاد.
وفي مراعاة شعور التائب إذا تاب من الذنب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرِّب) أي: لا يعيِّبها، شخص عمل الذنب وتاب، لا تعيّره بالذنب تقول: اذكر كذا، لكن استر عليه، من ستر مسلماً ستره الله، ولا تعيبه أمام الناس أنه فعل الذنوب ما دام أنه تاب.
وختاماً: أيها الإخوة: من عظمة هذا الموضوع ومن أهميته أنه ليس فقط مراعاة شعور بني الإنسان ونفسياتهم، بل إن الإسلام جاء بمراعاة شعور الحيوانات، تقول لي: كيف جاء الإسلام بمراعاة شعور الحيوانات؟ أقول لك: اسمع هذا الحديث الصحيح: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضعاً رجله على صفحة شاة -أي: أتى بشاة ووضع رجله على جنب الشاة- وهو يحد شفرته) تخيل المنظر: الشاة على الأرض وهو واضع رجله عليها، ويحد الشفرة (وهي تلحظ إليه ببصرها -وهذا شيء يقطع القلب حتى ولو حيواناً، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل في هذه الحالة- فقال: أتريد أن تميتها موتات -مقرعاً وموبخاً، تميتها قبل أن تموت- هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها) مراعاة للشعور حتى في البهائم، وهذا من رحمة الإسلام.
فإذاً -أيها الإخوة- نقول: هذا الباب باب عظيم، وقل من ينتبه له من المسلمين اليوم، وكم من أناس جرحوا شعور إخوانهم بكلمات وتصرفات سيئة، وكم من أواصر تقطعت وأناس هجروا بعض ولم يسألوا عن بعض بسبب كلمة واحدة قالها واحد للآخر في المجلس، كلمة أدت إلى قطيعة سنوات، لماذا؟ لعدم الاعتناء بالشعور والنفوس.
وفقنا الله وإياكم لأن نقوم بحقوق إخواننا، وأن نعتني بمشاعرهم، وأن يوفقنا وإياكم للقيام بحقوق الأُخوة الإسلامية، وأن يجعلنا إخواناً متحابين في سبيله، قائمين بشرعته، ونصر دينه، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يدخلنا الجنة بحوله، وقوته، ورحمته رجالاً ونساءً وأولاداً، وصلى الله على نبينا محمد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.