ومراعاة مشاعر الضيف ونفسيته من الأشياء المهمة، لذلك الضيافة لها آداب، منها: ما ورد في القرآن الكريم عن نبي الله إبراهيم عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:26 - 27] وهذه الآيتان قد جمعت من آداب الضيافة أشياء عظيمة، كيف؟ إنه راغ إلى أهله بدون أن يقول لهم: عن إذنكم سأذهب وآتي بالغداء، ثم هم يقولون: لا نريد، وهو يقول: لابد منه، ولكن راغ إلا أهله بخفية، وأخذ عجلاً وجعله حنيذاً وهذا طعام لذيذ، وهذا من أجل إكرام الضيف، ثم قربه إليهم، ولم يقل: تعالوا أنتم على الأكل، بل قربه إليهم، فمن الآداب أن تقرب الطعام إلى الضيف.
ولكن لو حدثت صعوبة في تقريب الطعام للضيف؛ لأن السفرة لابد أن تجهَّز-لأننا الآن لم نعد نأكل صنفاً واحداً بل نأكل عشرين صنفاً، فيصعب أن تأتي بالرز، ومن ثم اللحم، والفواكه، والكيك- فلا بأس بأن تضعه في غرفة ثم تدعوهم إليه، لكن لو قربته إليهم لكان أحسن.
ثم قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] واليوم بعض الناس يضعون الطعام ويسكتون، ولا يقولون للضيوف شيئاً، والضيوف ينظرون ويخجلون أن يمدوا أيديهم، لكنَّ إبراهيم عليه السلام قال: ألا تأكلون؟ وهذا من مراعاة شعور الضيف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مجهود -قد بلغ مني الجهد وما عندي شيء آكله- فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء -انظر الزهد- ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟ فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته -الصحابي يقول لامرأته-: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء -أي: اجعلي الأولاد الصغار يتلهون بشيء- فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، قومي إلى السراج حتى تطفئيه.
فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها -أضاءت السراج- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته.
انظر -سبحان الله العظيم! - كيف فقه النساء، هذا الأدب العظيم، قامت كأنها تصلحه فأطفأته، لماذا أطفأته؟ حتى لا يشعر بأنهما لا يأكلان معه؛ لأنه لا يوجد إلا طعام قليل قدماه وجلسا ولم يأكلا، ولو كان الضوء موجوداً لشعر الضيف بالإحراج ولم يهنأ بالأكل لأنه يأكل وهما لا يأكلان! فانظر إلى تلك المرأة كيف راعت شعور هذا الضيف، وأطفأت السراج حتى لا يرى هذا الضيف أنهم لا يأكلان شيئاً، ليس هذا فقط.
قال: فجعلا يريانه أنهما يأكلان، أي: أتيا بأصوات وحركات إذا سمعها الشخص الآخر يتوهم أنهم يأكلون، انظروا الصحابة إلى أي درجة وصل بهم الأمر، قال: فقعد وأكل الضيف، فباتا طاويين، والأولاد الصغار ناموا من الجوع.
ونحن اليوم نبذر، فالواحد منا عنده الملايين ويقدم للضيف مائدة طويلة عريضة أنفق عليها الألوف، لكن ليس هذا هو الكرم الحقيقي، الكرم هو أن يكون ليس عندك شيء أو عندك شيء تحتاجه، فتؤثر به غيرك، فهذا أعلى الدرجات، ولكن مع ذلك إذا جاءك الضيف وعندك قليل أو كثير أنت تكرمه، لا كما يفعل الناس اليوم يتكلفون ما ليس في وسعهم، وربما يحلفون بالطلاق على الضيف إلا نزل عندهم وأقاموا له الذبائح وهذا يحلف بالطلاق، والثاني مثله! والحلف بالطلاق من عادات الجاهلية، وربما يرفض، أو يعتذر؛ فيقع الطلاق على زوجته من حيث لا يشعر.
وما المانع من أن يعزم عليه بدون طلاق حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه بعدها؟ ثم يأتي هذا الشخص إلى العلماء يسال: أنا حلفت على الضيف بالطلاق ولم يفعل، فما حكم زوجتي؟ لماذا أورطت نفسك أصلاً في هذا؟! والتلفظ بالطلاق في هذه المناسبات صار -مع الأسف- مسألة من أسهل الأمور عند الناس.
وهذا أمر ينبغي علينا الانتهاء عنه واجتنابه.
فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)، أي: مِنْ عِظم ما فعلوا عجبَ الله عز وجل من صنيعهما، سبحان الله العظيم! وفي رواية: (ضحك الله من صنيع فلان وفلانة) وضحك الله عز وجل صفة تليق بجلاله وعظمته، ليست كضحك المخلوقين، وهي تدل على رضا الرب عز وجل عن هذا الفعل، ولكنه ضحك يليق بجلاله وعظمته.
أحياناً يأتيك ضيف، وتكرمه، وتذبح له، فيشعر الضيف أنك تكلفت، فبعض الناس يتعمَّدون إشعار الضيف أنهم تكلفوا له، أتينا بالذبيحة وصنعنا وفعلنا، فيُحرَج الضيف.
انظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان عن لقيط بن صبرة قال: (كنت وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا لم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، فأمرت لنا بخزيرة -نوع من اللحم يقطع ويطبخ- فلم ننشب أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ، فقال: هل أصبتم شيئاً؟ فقلنا: نعم يا رسول الله! ضيفونا، ولكنه عليه السلام أمر راعي غنم له أن يذبح شاة من أجل الضيوف، ثم قال للقيط: لا تحسبن أنَّا ذبحنا الشاة من أجلك -انظر لا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر الضيف بالتكلف- لنا غنم مائة -عندنا مائة رأس- لا نريد أن نزيد عليها، فإذا ولَّد الراعي بهمة -أي: إذا ولدت جديدة- ذبحنا مكانها شاة) إذا أصبحت مائة وواحدة ذبحنا واحدة، ونحن ذبحنا الآن واحدة لتبقى الغنم مائة لا نريد الزيادة، فانظر كيف راعى عليه السلام نفسية الضيف، حتى لا يظن أنه تكلف له وذبح ذبيحة.