تأمل أيضاً عندما جاء إخوة يوسف ودخلوا عليه، وهم قد أخطئوا في حق أخيهم خطأً عظيماً، فقد ألقوه في البئر، وربما كان يموت ويهلك، فأنقذه الله ببعض السيارة المارَّين -أخذوه وباعوه- وتسببوا في أن يعيش فترة من حياته مملوكاً، فظلموه، وهذا من الحسد حيث قالوا: كيف يحب يعقوب أخانا يوسف أكثر منا؟! لابد أن نعمل ما يبعده عنه؛ فنلقيه في الجب، أو نقتله، أو نطرحه في أرض غريبة فيضيع.
وبعد فترة من الزمن أعطى الله يوسف عليه السلام الملك والحكمة، وأعطاه النبوة، وقلَّده خزائن الأرض، وجاء بإخوته، وأبيه، وأهله من البدو وأسكنهم في المدينة.
فما هو موقف إخوة يوسف أمام أخيهم القادر، صاحب السلطة؟ يستطيع أن يفعل بهم أي شيء، ما هو موقفهم أمامه؟ وبأي شيء يشعرون؟ يشعرون بالخجل، بل بغاية الخجل منه، وقد يشعرون بالخوف من أن قد يبطش بهم.
فهذا الموقف ماذا يفعل فيه المسلم الحقيقي؟ يوسف عليه السلام كان حليماً، لا يريد أن ينتقم، فماذا فعل؟ وماذا قال لإخوته؟ قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، لم يقل: أخرجني من الجب، وإنما قال: أخرجني من السجن فقط، فلم يذكر الجب مطلقاً مع أن الله أخرجه من الجب لماذا؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا، وأنه يوبخهم.
وأيضاً هو عندما أتى بأهله رفع عنهم جهد الجوع والتعب الشديد، والعيشة القاسية في البادية، وأتى بهم إلى المدينة، فحتى لا يَمتنَّ عليهم، ماذا قال لهم؟ قال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] أي: الحمد لله الذي جاء بكم من البدو، ولم يقل: وأنا أتيت بكم من البادية، ووطّنتكم في المدينة، وأعطيتكم وأعطيتكم وأعطيتكم لماذا؟ حتى لا يشعرون بالذل، وأنه هو الذي تفضل عليهم، وإنما تلافى هذا الشعور الخاطئ، حتى يحفظ كرامتهم وماء وجههم، فصلاة الله وسلامه على هذا النبي الكريم.
ثم قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] من المخطئ؟ إنهم إخوته الذين أخطئوا لكنه قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، فوضع القضية بكاملها على الشيطان، ولماذا وضع القضية بكاملها على الشيطان؟ حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا.
وهذا أسلوب نحن نفتقده، فنحن نفتقد أسلوب التعامل مع شخص أخطأ عليك، ثم قدرت عليه وأصبحت في موقف القوة، كيف تعامله؟ كيف تعفو عنه وتصفح؟ ليس فقط تعفو وتصفح، بل كيف تتجنب أن تشعره بأنك تتفضل عليه اليوم، يوسف ليس فقط عفا عنهم، لكنه لم يشعرهم أنه قد تفضل عليهم، فقال: فعلت لكم، وفعلت لكم وأنا الآن أنعم عليكم وأعف عنكم، أنتم ظلمتموني، لكن أنا أحسن منكم لا.
لكن أتى بهذا الأسلوب اللطيف.