انظر إلى مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما أشاع المنافقون الإفك، وأنها وقعت في الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنهما، ماذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد قال هذه العبارة: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) الرسول كان غير متأكد، فماذا فعل؟ قال لها: (إن كنت ألممتي بذنب فاستغفري الله) فقط.
والآن بعض الناس قد يقع في بعض هذه الظروف، فيقول نفس الشيء: إن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله، وإن اشتبهت في شخص، فقل له: إن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله، فقط.
أما أنك تتهم شخصاً أو تلزق به التهمة والمسألة مازالت ظنوناً، فهذا من الجرائم، وهذا بعينه ذنب من الذنوب ترتكبه باتهامك لشخص بريء.
ولذلك كان من الاستيصاء بالتائبين خيراً: إرشادهم إلى باب التوبة المفتوح، وإلى عظم مغفرة الله ورحمته، وهذه فيها نصوص كثيرة جداً من القرآن والسنة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
(إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تقوم الساعة) (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (من علم أني ذو مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي) (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
إرشاد للناس هؤلاء، فتح للطريق، حين تريهم الأمل فإنك تجعلهم يستمرون في التوبة، وتجعلهم يقبلون على الله عز وجل، وتزيل اليأس من قلوبهم؛ لأن كثيراً من هذه النوعيات يحصل عندهم اليأس والقنوط، فيقول: الآن لا يمكن أن يغفر الله ذنوبي كلها، وليكن موقفك فيه كموقف العالم الذي جاءه قاتل المائة، قال: (قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟).
أما قضية أن يرى الإنسان مذنباً، فيقول: والله لا يغفر الله لك، فهذه من أعظم المصائب.
يُروى أن رجلاً قال: (والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، ولهذه قصة وردت في الحديث الصحيح التالي: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، وكان أحدهما مذنباً، والآخر مجتهداً في العبادة، وكان لايزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: اقصر -كف عن الذنوب- فوجده يوماً على ذنب، فقال له: اقصر فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً، فقال: والله لا يغفر الله لك، أو والله لا يدخلك الجنة، فقبضت روحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار).
بعض الناس الذين يصيبهم غرور في العبادة، يظن أنه الوحيد الذي يغفر له، وأن هؤلاء المساكين إلى النار مباشرة، فيتحكم في رحمة الله، وينازع الله في ألوهيته ويقول: هذا للجنة وهذا للنار، فهذا قد يدخل النار كما ثبت في هذا الحديث، وليعلم كل داعية إلى الله أن هذا الانكسار الذي يحدث عند توبته، والذل والخضوع يخلص المذنب من الكبر والعجب الذي يكون مترسخاً في نفوس البعض من العابدين، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المتفاخرين، ولعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر.
ولذلك قد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب نفسه، لما فيه من إظهار الطاعة، وتزكية النفس وتبرءتها من الذنوب، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد، ولا يثرب)، أي: لا يعيبها، فلا يظل بين فترة وأخرى يذكرها الذنب، يقول: أنت فعلت كذا وكذا، أنت فعلت الذنب!! فهذا التعيير غير جائز لهذا المذنب الذي أقيم عليه الحد، أو الذي تاب من ذنبه، وقد ورد عن بعض السلف: أن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله.
فيبتليه الله بأن يعمل نفس الذنب الذي عير أخاه به، وتعيير المسلم فيه نوع من الشماتة به، ولذلك ورد في القول المأثور: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك".
ولابد أن يشعر كل واحد من الدعاة إلى الله بأن الله يمكن أن يضله في أي لحظة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] وقال يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: (لا ومقلب القلوب) وكان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك).