حسن استقبال المذنب في المجتمع الإسلامي

ما هو موقع المذنب في المجتمع الإسلامي؟ إذا أخطأ شخص وندم، فإن أهل الوعي من المسلمين لابد أن يحسنوا استقباله مرة أخرى، حتى يرى المذنب أن المجال مفتوح أمامه، وأن خط الرجعة ممكن، فلا يمعن في الضلال والابتعاد.

وهذه الحادثة العظيمة التي رواها النسائي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس تبين لكم هذا الفقه العظيم في باب الدعوة إلى الله في الموقف من المذنبين، كان هناك رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم تندم، هل هناك أكبر من الردة ذنباً؟ لا يوجد.

ثم تندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ هذا الموقف يجب أن يستغل مباشرة، يمكن أن يأتي مذنب ويقول: أنا أشعر بالندم فهل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم، وإنه أمرنا أنا نسألك هل له من توبة؟ فنزل قول الله عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] حتى جاءت الآية التي فيها: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [آل عمران:89].

الذين تابوا بعد هذه الردة والظلم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89] فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم أن هناك مجالاً لك، فجاء فأسلم مرة أخرى، فما هو المطلوب؟ إن المطلوب أن يعود الشخص إلى الصراط المستقيم لأن هذا هو عين المطلوب.

حادثة أخرى تبين لنا الموقف: رجل من المسلمين شرب الخمر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلده، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، فقال واحد من المسلمين: قاتلك الله! -أمام الناس- أو أخزاك الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم).

شخص أمسك به وقد ارتكب ذنباً وأقيم عليه الحد، فهو كفارة للذنب؛ لأن من أقيم عليه الحد في الدنيا وتاب؛ فإن هذا الحد كفارة للذنب.

فما هو الداعي لأن يقال لمثل هذا الشخص: أخزاك الله؟ هذا خطأ! ولذلك قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) يطبق عليه الحد ويجلد، ولكن لا يدعى عليه، لا يقال له: أخزاك الله، فإن قلت له ذلك؛ ففد أعنت الشيطان عليه، وبدأ يكره هؤلاء الناس الذين يقولون له مثل هذه الكلمات.

قصة أخرى: أخرج أحمد والبيهقي عن أبي ماجدة قال: كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود، فقال: إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: حد السرقة- أُتي بسارق فأمر بقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قطعت يده، لاحظ الصحابة في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه أسف، فيه علامات تأسف على ما حصل.

(فقالوا: يا رسول الله! كأنك كرهت قطعه، قال: وما يمنعني؟ -لماذا لا أكره قطعه- لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد ألا يقيمه، إن الله عفو يحب العفو: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] قال الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة: هو عندي حسن.

فإذاً كان من الأولى أن يعفى عن هذا السارق، لكن مادام وقد رفع أمره، وثبتت عليه السرقة عند الإمام أو الوالي أو القاضي أو ولي الأمر، فلابد من إقامة الحدود، ولا يمكن أن تنفع بعد ذلك شفاعة ولا واسطة، وحتى لو تنازل المسروق منه فلابد من إقامة الحد إذا وصل إلى ولي الأمر، هذا حكم شرعي.

فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن هذا الشخص ما أُتي به إلي، ولم تبلغني القضية، وسامحه الناس الذين سرق منهم ما قطعت يده، ونحن نتكلم عن هذه الحالة بالذات، ولا نتكلم عن شخص كثيرة جرائمه، وقد عمت البلوى وصار لا يسلم أحد من شره، لا.

هذا قد يكون في قطع يده إصلاحاً له.

وهناك أيضاً حادثة أخرى من السيرة تبين كيف كان المذنب يستقبل في المجتمع الإسلامي الأول، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه امرأة شريفة في القوم لها مكانة من بني مخزوم، هذه يحكم عليها بقطع يدها؟! فكانت هذه مشكلة عندهم، قالوا: من يتوسط فيها، ويكلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد أبداً إلا أسامة، فهو أقرب الناس إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحبه جداً، وهذا موضوع خطير وحساس لا يمكن أن يتكلم فيه إلا أسامة.

كلموا أسامة: توسط لنا عند رسول الله، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، فقال: (أتشفع في حد من حدود الله) فقال أسامة وشعر بالذنب الشديد: استغفر لي يا رسول الله! أي: لأني تجرأت بأن أتوسط في حد من الحدود.

لا تجوز الوساطة في الحدود نهائياً، ومن أكبر الجرائم إخراج شخص قد حكم عليه بحد، وبلغ الإمام، فمن يتوسط له يبوء بإثم عظيم عند الله.

فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله تعالى بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد: فإنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها أمام الناس).

هذه قصة معروفة للجميع، لكن الشيء الذي يجهله الكثير من الناس تكملة القصة، والقصة في صحيح مسلم، قالت عائشة: [فحسنت توبتها بعد -هذه المرأة السارقة تابت إلى الله، وحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت- وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذه عبارات عظيمة جداً ينبغي أن نقف عندها، هذه المرأة السارقة لما تابت لم تصبح منبوذة، لم ينظر الناس إليها بعين السخط والازدراء على ما وقع منها من ذنب، لقد وجدت لها مكاناً في المجتمع الإسلامي، لقد وجدت من يتزوجها، لقد كانت تأتي إلى عائشة فتفتح لها البيت وتستقبلها، بل لقد كانت حاجتها ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائد الأمة، وأعلى رجل في الدولة الإسلامية.

إذاً هذا الاستقبال الحسن هو الذي يجعل التائب يواصل في التوبة عندما يشعر أن له مكاناً وأن الاستقبال حسن؛ فإنه يواصل في التوبة، ولكن في كثير من الأحيان لا يحسن البعض استقبال التائبين، وينظر إليهم بعين الازدراء والاحتقار والنقص؛ لأنه كان صاحب سجل في الماضي، فيرى نفسه منتقصاً، فيقول: الأحسن ألا أرجع إلى الناس الذين كنت معهم في الماضي، لماذا أعيش بين أناس ينظرون إلي بهذه النظرة؟ وهذا السيء في الاستقبال يتحمل إثم نكوص الشخص الذي كان قد تاب، ثم نظر إليه بهذه النظرة ولم يفسح له المجال، فهو يتحمل شيئاً من إثم هؤلاء الذين لم يحسن استقبالهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015