الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فكانت سيرته صلى الله عليه وسلم بحقٍ نموذجاً فريداً لم يمر بالبشرية مثله أبداً ولن يمر، كان قدوة بعبادته وتقواه وخشيته وتعليمه وجهاده صلى الله عليه وسلم، وتجرد عليه الصلاة والسلام في دعوته للناس، فكان مستضعفاً في مكة، وجعل يدعو الناس إلى الإسلام حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة بعد مرحلة استضعاف طويلة -مكث ثلاث عشرة سنة مستضعفاً- بـ مكة لا يستطيع الجهاد، حتى هاجر إلى المدينة، وأسس ذلك المجتمع المسلم، فأذن الله سبحانه وتعالى بالجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويجهز البعوث، ويقود الجيوش حتى آخر لحظة من حياته.
مات صلى الله عليه وسلم جاهداً مجاهداً، وسار من بعده خلفاؤه على هذا النهج في حرب المرتدين، وفي حروب فارس والروم، حتى أذن الله بأن تضعف هذه الأمة مرة أخرى، وأن ترجع ضعيفة بعد قوتها الأولى، ولكن الله رحيم بعباده، فلما جاءت جيوش الصليبيين إلى بلاد الشام كانت أكبر نكسة أصيب بها المسلمون، وأعظم الخطوب خطراً منذ حرب المرتدين.
ثم بعد ذلك جاءت نكسة التتر بعد موجة الصليبيين، ثم بعد ذلك جاء الكفار في العصر الحديث بغزوهم العسكري والفكري، والله سبحانه وتعالى لا يترك هذه الأمة بلا رحمة، بل إنه أذن عز وجل بأن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ولذلك كان التجديد وأحاديث المجددين من البشائر التي ينبغي على المسلم أن يتمعنها ويتأملها؛ لأنها تبعث في النفس الأمل في أوساط الضعف والهزيمة مثل الأوساط التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، ولكن هذه الأمة كالغيث لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره (الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة).
فبعث الله المجددين في كل فرع من فروع الدين، فكان منهم من جدد في جميع الفروع كـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان منهم من جدد في جوانب الفقه أو التفسير أو الحديث، وكان منهم من جدد في جوانب الجهاد، ولذلك تمر بعض القرون بالأمة الإسلامية ولا يمكن أن يكون المجدد فيها واحداً، بل قد يكون مجموعة من الناس يجدد في وقت واحد؛ هذا يجدد من جهة، وهذا من أخرى، وهذا من ثالثة، حتى يقوم عماد الإسلام مرة أخرى.
كان الوقت الذي غزا فيه النصارى بلاد المسلمين وقتاً عصيباً جداً؛ فإنهم -عليهم لعائن الله- قام فيهم بطرس الناسك يحرضهم على غزو بلاد المسلمين، ويقول: إن أرض المسلمين تنبع لبناً وعسلاً، وأعلن بما يسمى بـ (الحرب المقدسة) حتى اجتمع من جيوش الكفرة من النصارى خلق عظيم غزوا سواحل بلاد الشام، فاحتلوا كثيراً منها، وأمعنوا في المسلمين قتلاً، وفي بلادهم وممتلكاتهم نهباً وسلباً، وقام المسلمون من كل مكان من بلاد الشام يذهبون إلى إخوانهم يستنصرونهم فلا معين ولا ناصر، وكان يشكو مصر في ذلك الوقت الدولة الفاطمية الباطنية الرافضية الكافرة -التي لما قام ملوكها قاموا بقتل علماء السنة في مصر، وجعلوا المساجد والأئمة والخطباء والقضاة منهم من أتباع المذهب الفاطمي، ينتسبون إلى فاطمة وفاطمة منهم بريئة رضي الله عنها.
وكان هؤلاء من خياناتهم: أنهم كانوا يتعاونون مع النصارى، وهكذا الباطنيون في كل عصر ومصر يكيدون لـ أهل السنة، ويتعاونون حتى مع الشيطان الرجيم في سبيل القضاء على ملة الإسلام، وما كانوا يقلون خطراً أبداً عن النصارى، بل إن شرهم مستطير، وبلاءهم عظيم، وقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام في هذه الفترة ثلاثة من ملوك المسلمين العظام تتابعوا واحداً بعد واحد: محمود بن زنكي (نور الدين الشهيد) وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله تعالى، وهو الذي سنتحدث عن سيرته في هذه الليلة وعن تجديده في جانب الجهاد، وسنركز على جانب الجهاد أكثر شيء.
صلاح الدين رحمه الله بشر يصيب ويخطئ، وقد تكون له زلات، ولكن لا شك كما قال شيخنا عبد العزيز حفظه الله، وقد سألته عن هذا الرجل، وعما قيل فيه سلباً وإيجاباً، قال: لا شك أنه من مجددي الإسلام في الجهاد، وقال: وجهوده في القضاء على الباطنيين والنصارى عظيمة جداً لم يقم بها أحدٌ مثله، في القضاء على هاتين الطائفتين في وقت واحد.