إن الإسلام كالشمس إن غربت في جهة طلعت من جهة أخرى، فلا تزال طالعة، وإن مات فرد من أفراده أقام الله من المسلمين من يجبر النقص ويسد الثغرة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
إن هذه الأمة قادرة بإذن الله على تعويض النقص الذي يطرأ عليها، ولقد تبدلت أحوال وبقيت هذه الأمة، لو أن أمةً أخرى شنت عليها الغارات التي شنت على هذه الأمة لاندثرت منذ زمن بعيد، ومع ذلك فإن مصير الإسلام غير مربوط برجال أو أفراد معينين، ولا جماعات معينة، إنه دين أنزله الله ليبقى لا ليندثر ولا لينمحي، وقد يموت شخص فتحيا أمة:
إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول
إن هذه الأمة معطاءة ولود, إذا سكت منها صوت خلفه أصوات، وإذا مات خطيب خلفه خطباء، وإذا استشهد مجاهدٌ خلفه من يحمل الراية ويهاجم الأعداء، وهذا وعد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح، يحيي ما اندرس من الدين ويعيده صافياً نقياً.
وقال عليه الصلاة مبيناً أن الله يجعل في الأجيال من يقوم بالدين: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته) رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(لا يزال) إذن هناك توالي في العملية، وهناك شباب قادمون وأجيال ستأتي، غرس يغرسه الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] الطائفة المنصورة منصورة باقية لا تهزم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) إنها أمة عجيبة مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره، كله نافع للزرع، المطر المتقدم والمطر المتأخر، نعم.
إن المتقدم كالصحابة والسلف أهمَّ، لكن المتأخر مفيد أيضاً، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، ولكن في آخر الأمة هناك أناس يقاربون في الفضل وإن لم يصلوا إلى ذلك الفضل.
وإذا نظرنا في شواهد التاريخ، أتى الصليبيون بلاد المسلمين في القرن الخامس، احتلوا أكثر مدن الشام أكثر من مائتي عام، وسقطت القدس في أيديهم (92) سنة، وقتلوا فيها تسعين ألفاً من المسلمين، وشابت الولدان من أهوال جرائمهم، ولكن رجعت مرةً أخرى إلى المسلمين، وقام نور الدين محمود الملك العادل ليث الإسلام، وحامل رايتي العدل والجهاد، أظهر السنة وقمع أهل البدعة، شجاع وافر الهيبة، فقاد الجموع، انتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينةً وحصناً، قال: لما التقينا بالعدو خفت على الإسلام فانفردت ونزلت ومرغت وجهي على التراب وقلت: يا سيدي! -يخاطب الله عز وجل- من محمود؟! الدين دينك والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم.
قال الفقيه الشافعي النيسابوري يوماً: بالله لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.
قال: اسكت يا قطب الدين! إن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟! من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟! ومن هو محمود؟! فبكى من كان حاضراً رحمه الله.
ثم مرت الأمة بشدة أعظم وأدهى وأمر، عندما اكتسحها في أوائل القرن السابع التتر وفعلوا ما لا يصفه قلم، ملايين القتلى، ومع ذلك كما تقدم انتصر المسلمون، ورجعت القوة لأهل الإسلام مرة أخرى، وعقر جواد قطز في المعركة وبقي ثابتاً راجلاً والقتال دائر، ولامه من معه: لم لا تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء قتلك هلك الإسلام.
قال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه ولن يضيع الإسلام.
وهكذا حمل الراية الظاهر بيبرس وغيره، وجاء الأشرف خليل ليقضي على آخر إمارة للصليبيين في عكا سنة (690) للهجرة ويخرجهم منها، صمد الإسلام أمام أعنف الضربات وأقساها وحشية، ولكن بعث الإسلام وطلائعه كانت تأتي حيناً بعد حين، ولا زال الله يقيض لهذه الأمة من يقوم بأمره سبحانه وتعالى.
هذه أمة عظيمة، أليست هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟! أليست هذه الأمة أمة مرحومة؟! أليست هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة؟! أليست هذه الأمة محفوظة بحفظ الله لا تهلك بغرقٍ عام، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستأصلهم عن آخرهم؟! أليست هذه الأمة من أول الأمم دخولاً الجنة؟! ألسنا الآخرين السابقين يوم القيامة، الآخرون زماناً السابقون يوم القيامة؟! ألسنا فضلنا بيوم الجمعة، والتأمين خلف الإمام، والتحية بالسلام، وأن صفوفنا على صفوف الملائكة؟! ألسنا ثلثي أهل الجنة؟! أليس يبعث الله على كل رأس مائة سنة واحداً منا يجدد لنا الدين، أو جماعة يجددون الدين يعدهم بالنصر والتمكين؟! أليس الوعد من النبي عليه الصلاة والسلام حاصلاً: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين, بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين والرفعة)؟! إذاً: لا يمكن أن تجتث ولا أن تهزم، ولو ضربوها بالقنابل الذرية والنووية، ولو مسحوا مدناً وأبادوا أهلها، ولو هجَّروا أهل فلسطين منها كما يريدون في مخططهم الجديد المزعوم.
فإن الله تعالى سيقيض من هذه الأمة من يهزمهم حتماً، ومن يموت على نية حسنة يموت شهيداً ويذهب إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ومن يبقى وهو ملازم لأمر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعيش كبيراً ويموت كبيراً لأجل عظم الغاية التي يعيش من أجلها.
أيها الإخوة! إن هذه الكلمات هي لرفع المعنويات والإثبات بالأدلة الشرعية، وبالواقع العملي أن الإسلام هو القوة القادمة، وأن النصر له لا شك ولا ريب.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم في الظلمات والظلم, يصاب الكثيرون باليأس والإحباط فنقول لهم: كلا كلا.
لكن لا يجوز الاتكال على الشرف، ونقول: سننصر بدون سبب، فلا بد من العمل: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اعملوا: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
أيها الإخوة والأخوات! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين يقولون الحق وبه يعدلون، وأن يجعلنا ممن نصر بهم دينه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.