أما بالنسبة لكتاب كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، فإن أهمية هذا الكتاب تنبع من أنه يُوضح معنى شهادة لا إله إلا الله، لأن هذه الكلمة التي خفي معناها على الكثيرين، وجعلها بعضهم وسيلة لدخول الجنة بلا تعب، يقولها كلمات دون أن يعقل معناها، أو يعمل بمقتضاها، أو يوفيها حقها، أو يقوم بشروطها، فأراد ابن رجب رحمه الله أن يبين عِظم هذه الكلمات، وأن مفتاح الإسلام لا إله إلا الله هذه عبارة عظيمة جامعة لها معاني وفيها شروط ينبغي أن تحقق وأن تطبق، استهلها بعد البسملة بقوله: خرّج البخاري ومسلم في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل -ولذلك أحياناً يطلق على هذه الرسالة شرح حديث معاذ - فقال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: ما من عبدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً).
وكذلك جاء في الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وكذلك حديث: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة).
وكذلك في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، -يقول أبو ذر - قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر).
وكذلك حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حرمه الله على النار) وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه مسلم.
الآن نأتي إلى قضية ما معنى هذه الأحاديث التي فيها أن قول: لا إله إلا الله يدخل الجنة وينجي من النار؟ هل المقصود هو قول هذه الكلمة فقط كما يفهمه كثير من العامة أنك إذا قلت الكلمة دخلت الجنة بمجرد القول، وتنجو من النار؟ وإذا احتججت على بعضهم، أو ناقشته في معاصيه، أو في فسق فلان وفجوره، أو في كفر فلان، قال: هذا يقول لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة.
فما هو الكلام في مسألة التلفظ بالشهادتين، ما حقيقة هذا التلفظ؟ وكيف ينبغي أن يُنظر في الأحاديث هذه التي ساق ابن رجب رحمه الله طرفاً منها؟ قال: وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما: ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها، وهذا ظاهر.
يقول: هذا لا إشكال فيه، فإن النار لا يخلد فيها أحدٌ من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طُهر من ذنوبه في النار.
إذاً أولاً: من قال: لا إله إلا الله، ليس قوله مانعاً من دخوله النار، لكن يدخل الجنة بعد التطهير، وحديث أبي ذر وما في معناه وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، ليس معناه أن من قال: إلا إله إلا الله دخل الجنة بدون عذاب وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، لا، وإنما معناه أن الموحد وإن زنا وإن سرق سيكون مصيره في النهاية إلى دخول الجنة، أصابه قبل ذلك ما أصابه، ممكن يحترق في النار مليون سنة على معاصي وكبائر عملها، لكن في النهاية سيدخل الجنة.
فإذاً الأحاديث تدل على أن الموحد مصيره في النهاية إلى الجنة، لكن هذه الأحاديث لا تعني إطلاقاً أنه لن يمسه عذاب قبل ذلك، ولذلك ورد في بعض الأحاديث: (من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوماً من دهره يصيبه قبل ذلك ما أصابه) وبوضوح أن بعض أهل التوحيد يعذبون، ويصيبهم من النار ما يصيبهم نتيجة كبائر ومعاصي اقترفوها، أو واجبات تركوها، وفي النهاية يخرجون من النار ويدخلون الجنة.
إذاً هذا اتجاه، ومعلم واضح في فهم هذه الأحاديث.
ثانياً: بعض هذه النصوص، فيها أنه يحرم على النار، لا أن يكون مصيره فقط إلى الجنة بل يحرم على النار، فكيف نفهمها؟ وقد دلت أحاديث وآيات كثيرة على أن أصحاب الكبائر يعذبون والعصاة يعذبون والفجرة يعذبون، فكيف نجمع بين هذه النصوص الكثيرة جداً، والتي فيها أن الله يُعذب من شاء من أهل الكبائر والمعاصي وهم موحدون، وبعض النصوص التي فيها أن شهادة أن لا إله إلا الله تحرم صاحبها على النار، نحن الآن انتهينا من أنها تدخل صاحبها الجنة، قلنا: نجمع أنه يدخل الجنة بعد أن يُعذب إلا إذا عفا الله، فكيف نفهم الآن بعض النصوص التي فيها أن من قال هذه الكلمة فإنه يحرم على النار؟ كيف نجمع بين هذا وبين النصوص التي فيها تعذيب بعض أصحاب الكبائر، أو الآثام والمعاصي؟
صلى الله عليه وسلم أننا نقول: يحرم الموحد على النار من جهة الخلود فيها، أي: يحرم عليه الخلود في النار لا الدخول والعذاب، أو أنه لا يدخل النار التي فيها خلود، لأن نار جهنم دركات، فالدرك الأعلى يدخله كثيرٌ من العصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، يدل على هذا حديث الصحيحين: (أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) فلاحظ هنا الكلام (لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله) إذاً دخلوها، وعذبوا فيها، ثم خرجوا منها.
إذاً: الذي امتنع عنهم هو الخلود وليس الدخول والتعذيب.
إذاً القاعدة الأولى قلنا: الموحد مصيره إلى الجنة في النهاية، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه.
ثانياً: الموحد لا يخلد في النار، ولا بد أن يخرج منها في يوم من الأيام إذا دخلها، هذا فهم للنصوص قال به أهل العلم.
فهمٌ آخر تُفهم به أحاديث: (من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة) (ومن قال لا إله إلا الله، حرم من النار) قالت طائفة من العلماء: المراد من هذه الأحاديث: أن (لا إله إلا الله) سببٌ لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتضٍ لذلك، لكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه.
أي: نقول: إذا أردنا أن نجري النصوص بجميع ما في معناها، أي: نقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم من النار).
إذا انتفت عنه الموانع، وتوفرت فيه الشروط: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم على النار) إذن تقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) بلا عذاب و (من قال لا إله إلا الله، حرم من النار) ولو لحظة، أي: حرم على النار مطلقاً، فلا بد أن تقول إذاً: إذا قام بشروط لا إله إلا الله وحققها، وانتفت الموانع التي تمنع من دخول الجنة دون عذاب، وانتفت الموانع التي توجب دخول النار والتعذيب فيها، لأن بعض الموحدين قد يتخلف عنهم بعض الشروط، أو توجد فيهم موانع تمنع من دخولهم الجنة مباشرة، وابن رجب رحمه الله رجح الثاني وهو قضية الشروط والموانع بأن تفسر النصوص بقضية الشروط والموانع.