لكن من الأشياء المهمة جداً في ابن رجب رحمه الله عقيدته السلفية، نظراً لأن السالكين لسبيل تلك العقيدة في ذلك الزمان لم يكونوا هم المسيطرين على الأمور، لأن الغلبة كما قلنا كانت لمذهب الأشاعرة، ولكنهم كافحوا في سبيل تقرير العقيدة السليمة والدفاع عنها مكافحة عظيمة.
فنرى في كتب ابن رجب رحمه الله الخط الواضح الأصيل للعقيدة السلفية في الأبواب المختلفة، فمثلاً في الأسماء والصفات يقول: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا تكييف، ولا تمثيل إلى آخره.
وكذلك في مسألة الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال: العلم النافع من هذه العلوم ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، فهو إذاً يضع في رأس العلوم تفسير القرآن ومعاني الحديث، والحلال والحرام، وهذا قمة ما يمكن أن يطمح إليه طالب العلم الشرعي الذي يسير على الطريقة السلفية.
ولأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة نقل عنه أهل السنة والجماعة، فلذلك تجد كثيراً من أئمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ينقلون عن ابن رجب كما ينقلون عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والحافظ لم يكن حنبلياً صرفاً، وإنما كان له اطلاع على المذاهب، وكان له إتقان خاص بمذهب الإمام أحمد رحمه الله يتابعه من غير تَشَهٍ ولا هوى.
وكتاب القواعد الفقهية لـ ابن رجب خير مثال على سعة فقه الرجل وعلمه، وهذه القواعد الكثيرة التي وضعها في هذا المجلد النافع الكبير الذي عُد من عجائب الدهر؛ حتى إن بعض المنتسبين إلى العلم استكثروا على ابن رجب كتاب القواعد، قالوا: هذا ليس من تأليفه، حتى زعم بعضهم إنما وجد قواعد مبددة لـ ابن تيمية رحمه الله، فجمعها ونسبها لنفسه، يقول ابن عبد الهادي رداً عن هذه الفرية: ليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك.
من كتبه المشهورة: كتابه الحافل ذيل طبقات الحنابلة الذي ذيل به على طبقات الحنابلة لـ أبي يعلى، وأكمله وفيه فوائد فقهية وحديثية وعقدية ولغوية غير المعلومات التاريخية التي سطرها رحمه الله.
وكذلك فإنه حصل له باعٌ كبيرٌ في علم الحديث كما قلنا، ورافق زين الدين العراقي في السماع، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، وأتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق كما يقول ابن حجر رحمه الله مادحاً ابن رجب.
من أشهر الآثار التي تركها ابن رجب وهي دالةً على سعة اطلاعه في الحديث كتابه العظيم فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لكن اخترمته المنية قبل أن يتمه، ومن العجائب أنه توقف فيه، مات وهو يشرح في كتاب الجنائز من صحيح البخاري، تلقف ابن حجر رحمه الله اسم كتاب ابن رجب وسمى كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وأتى بالكتاب كاملاً، فالقطعة الموجودة من كتاب ابن رجب فتح الباري في شرح صحيح البخاري شرحٌ نفيسٌ أتى فيه بالعجائب.
وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم الذي شرح فيه الأربعين النووية شرحاً متقناً، وله على جامع الترمذي شرحٌ كبيرٌ يقع في عشرين مجلداً، وقد أجاد فيه، ولكن هذا الكتاب مع الأسف احترق في دمشق خلال إحدى الفتن التي وقعت فيها، ولم يبق منه سوى وريقات، لكن بقي كتاب اسمه شرح علل الترمذي، شرحه ابن رجب وهو مطبوع في مجلدين، ويظهر فيه سعة علم هذا الرجل، لأن الكلام في العلل لا يُحسنه كل أحد، قمة علماء الحديث هم الذين يتكلمون في العلل، العلل يتلكم فيها الدارقطني، يتكلم فيها الإمام أحمد رحمه الله، أو البخاري، يتكلم فيها طبقة معينة من علماء الحديث.
علم العلل يحسنه طبقة خاصة من الناس وذلك واضح جداً من كتاب ابن رجب في شرح علل الترمذي وأنه أحد هؤلاء، حصلت له محنة في آخر حياته نتيجة إفتائه بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقام عليه أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية، وثربوا عليه وعابوه، وحصل لهم عليه منافرة وشغب مما جعله يمتنع عن الإفتاء بهذه الفتاوى مما سبب له في المقابل شيئاً من عتب التيميين، لكنه رحمه الله لعله أراد البعد عن الإشكالات خصوصاً أنه لم يكن صاحب مهاترات وصراعات ودخول في نقاشات تقسي القلب، ولذلك فإنه في آخر عمره آثر شيئاً من الانعزال توفي بعده رحمه الله.
الحافظ ابن رجب له عبارات صوفية، لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية ربما يكون لها أثر في اقتباسه لبعض العبارات، لكنه لم يكن صاحب شطحات وخرافات، لكن في كلامه تأثر ببعض عباراتهم، وعندما ينقل عن بعضهم كـ ذي النون المصري والبسطامي وبشر الحافي ورابعة العدوية ونحوهم، فإنه لا ينقل الأقوال الباطلة والعقائد المنحرفة، وإنما يختار من كلامهم، ويختار من كلام أئمة التصوف ما هو موافق للكتاب والسنة، كقول أبي سليمان: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة.
وقول الجنيد وكان من أئمة الصوفية: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا وهكذا.
لكن الرجل بشر، ووقوع الخطأ منه متصور، ولذلك يمكن أن يكون في بعض عبارات ابن رجب كلمات صوفية لا تُرتضى، أو لا تُقر، فإنما تُحمل على أحسن المحامل، ولو كانت خطأ يقال هي خطأ، ولا إشكال في ذلك، لكن الرجل فيه رقة في أسلوبه لعله أخذ من ابن القيم رحمه الله أشياء من هذا، حتى إن بعض عبارات ابن رجب لو قرأتها بدون أن تعرف من الذي قالها، لربما أنك تعزوها لـ ابن القيم رحمه الله، كما قال ابن رجب في كتاب استنشاق نسم الأنس: الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، عمَّا هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذِكره قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح.