الشنقيطي في معهد أم درمان

ثم ذكر بعد ذلك في الطريق أن بعض الأساتذة المدرسين في معهد أم درمان، وأثنى على أم درمان، وعلى معهد أم درمان، وعلى الطلاب الذين في هذا المعهد الديني، وقال: إنه سأله بعض الأساتذة أن يتكلم له على قوله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] ذكر الجواب في ثلاث صفحات.

ثم سألونا عن وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] وبينا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] وذكر في تفسيره أضواء البيان كلاماً رائعاً حول هذا، والقراءات في (آمرنا وأمّرنا، أمرنا) أن أمر أو أمِر في اللغة تأتي بمعنى الكثير أي: كثرناهم، ويستشهد بقول أبي سفيان: أمِر أمر ابن أبي كبشة أي: عظم وانتشر.

ثم سألني بعض أذكياء الطلبة عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] في معهد أم درمان سألوه عن تفسيرها، وعن قصة الغرانيق، فأجابهم في تسع صفحات.

ثم سألوه عن تحقيق بيتين في ألفية ابن مالك، فأجابهم عن ذلك، وسألوه عن مسائل أخرى لغوية ونحوية، ذكرها رحمه الله في كتابه الذي هو رحلة الحج، ثم سألنا بعض الطلبة: هل عثرنا على نص من كتاب أو سنة يُفهم منه وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟ فأجاب رحمه الله ما ملخصه: إن ذلك قد جاء بالإشارة أن بعض النصوص فيها إشارة إلى هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وأن المقاتلة على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا بد أن تكون بين طرفين، هم طرف وأنتم طرف، وإذا كان هذا معنى ذلك أنه لا بد أن يكون هناك جيشان، وإذا كان هناك جيش فلا بد أن يكون هناك اجتماع ونظام وأمير لكل من الطرفين.

فمعنى ذلك، قال: وفي هذا إشارة إلى أنه يكون لليهود دولة وقوة حتى يقاتلوا، هذا كله أخذه من أين؟ كل الكلام هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وذكر أن فيها إشارة فعلاً إلى ذلك وأنه لا يصلح أن يقاتلونا وهم كما قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف:168] أنهم مقطعين مشردين فلا بد أن يجتمعوا وتكون لهم قوة ويعملون جيشاً ثم يقاتلون، ولكن ستكون الغلبة في النهاية للمسلمين عليهم.

وسأله بعض الطلاب عن الحديث الثابت في قتال الترك: (كأن وجوههم المجان المطرّقة) فما معنى هذا؟ ومن أين أخذ؟ وقال: لم تزل المذاكرة بينا وبين علماء معهد أم درمان الديني حتى جاء حديث الضيافة والإحسان إلى الضيف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القِرة -أي: عندما يأتي ضيف فلا يجد أحداً يُضيفه- وذكرت لهم نبذاً من هجاء الشعراء -انظر العالم وميزة العالم، أن كل شيء يأتي تجد أن له فيه إسهاماً، من شعر أو قول فكانت هذه الملح في هذا- قال: وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء:

أبو جعفر رجل عالم بما يصلح المعدة الفاسدة

تخوف من تخمة أضيافه فعودهم أكلة واحدة

فهذا من بخله، لكن الشاعر، يتندر عليه فيقول: هذا حريص على صحتنا، وعلى عدم تلبك معدتنا.

ولما ذكرت لهم بهذه المناسبة بيتي الأديب أحمد بن عبد الله البوحسني الشنقيطي المعروف بالذئب، وقد استضاف أقواماً فلم يضيفوه، رفضوا أن يضيفوه:

مات الغداء لدينا أهل ذا الأفق والخطب سهل إذا كان العشاء بقي

ولست أحسبه يبقى وقد زعمت عوّاده أنه في آخر الرمق

أي: أنهم سيأكلوا الآن العشاء والضيف يبقى بلا شيء، فضحكوا.

ثم سألني صديق كبير ذو الشمائل الطيبة، أحد أساتذة المعهد المذكور الشيخ إبراهيم يعقوب فقال: أأنت شاعر أم لا؟ فقلت: أما بالجبلة والطبيعة فنعم، الشعر يجري في نفسي، وأما من حيث التوصل بالشعر إلى الأغراض والأكل به من الملوك والأمراء فلا، فألح عليّ أن أسمعه شيئاً كنت قلته من الشعر فيما مضى، فأخبرته أن عهدي ينسج القريض أيام الصبا، وأكثر ما جرى على لساني في عنفوان الشباب، وأني لما عزمت على ألا أقول شعراً قلت أبياتاً في ذلك مقتضاها أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد.

المهم أنهم أصروا عليه فأسمعهم بعض الأبيات التي سبق أن نظمها، وسألوه عن آيات أيضاً من القرآن الكريم، ثم قال: لما عزمنا على السفر من أم درمان اجتمع بنا الأخ الفاضل محمد صالح الشنقيطي رئيس لجنة في السودان فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا وأظهر لنا البشر والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية، وشيعنا بسيارته الخاصة، وأخذ لنا ولجميع من معنا تذاكر السفر في القطار الحديدي؛ كي نسافر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015