إذاً: لماذا يعتذر ويحتج أولئك الفسقة والعصاة إلى ربهم بهذه الأعذار، ويقول أحدهم: أنا ليس لي حيلة، وليس لي مهرب، أنت الذي قدرت عليَّ، وهذا مع تواتر إحسان الله إلى هذا العبد، أحسن إليك أشد الإحسان، أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل وهم الرسل، وأعطاك مؤونة السفر، وزودك بالتوجيهات القرآنية والنبوية، وأعطاك ما تحارب به قطاع الطريق من الأبالسة، وشياطين الإنس الذين يوقعونك في المعاصي، وأعطاك ما تحذر منهم، من الأدوات التي تحاربهم بها، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام من الملائكة، يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك -وهذه من وظيفة الملائكة- ويريدون منك ألا تميل إلى هذا العدو ولا تصالحه.
وأنت تأبى إلاَّ مظاهرة هذا العدو عليهم، واتباع طريق الشيطان، وموالاته دونهم؛ بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك.
لماذا طرد الله إبليس من سمائه؟ ولماذا حرمه الجنة وأبعده عن قربه؟ لأنه رفض أن يسجد لك أنت أيها الإنسان، لكرامتك عند الله طرد إبليس من أجلك؛ لأنه لم يسجد لك واحتقرك وامتهنك، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
من أجلك أنت طرد الله إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته، ثم أنت توالي هذا الشيطان، وتسير في ركابه، وتسلك طريقه معادياً ربك الذي أكرمك أنت بطرد إبليس.
وبعدما توالي هذا العدو، وتميل إليه وتصالحه تتظلم وتشتكي بالطرد والإبعاد.
أمرك الله بشكره لا لحاجته إليك، ولكن لتنال أنت المزيد من فضله، فجعلت كفر نعم الله والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب زوال النعم، وأمرك الله بذكره ليحسن إليك بالثواب، فجعلت نسيان الله ديدنك، فجعلت الله ينساك: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
أيها الإخوة! إن هذا الرجل لا يصلح على عافية ولا على ابتلاء، فالعافية تسبب الزيادة في المعاصي، وكفران النعمة، والابتلاء يجعل الإنسان يشتكي إلى الخلق ويقول: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته، ثم فتحه لك فما عرجت عليه ولا ولجته، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته فعصيت الرسول، وقلت: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا نقداً بنسيئة.
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
هذا لسان حال العصاة، يقول: آخذ النعيم الذي أراه الآن أمامي، لا أنتظر النعيم الآخر المؤجل الغائب عن نظري، أنا أريد هذا النعيم.
إذا وافق حظ هذا الإنسان طاعة الرسول أطاعه؛ لا طاعةً وحباً في رسول الله، ولكن ليحصل على مبتغاه، ومع ذلك فإن الله تعالى لم ييئيسك من رحمته؛ بل قال: متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهاراً قبلتك، وإن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ، فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب.
بلغ من رحمة الله أنه يبتلي بعض العباد بالمصائب ليكفر عنهم ذنوبهم، من آثرني على سواي، آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له، اشكر اليسير من العمل، واغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلق خطامها بالشجرة، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته).