ثم نأتي -أيها الإخوة- على مسألة أخرى: وهي تحمل المسئولية؛ وتحمل المسئولية لا بد فيها من الرفق، وأؤكد على هذا الجانب بالذات تأكيداً شديداً، لأن الذي يتولى أمور المسلمين إذا لم يكن رفيقاً بهم، فإن الفساد والفوضى ستعم، والظلم سينتشر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم.
لاحظ العبارة: (ومن ولي من أمر أمتي شيئاً) لا يشترط أن يكون الخليفة، فيمكن أن يكون أدنى منه بكثير، من ولي ولو أمر رجل واحد، من ولي أمر رجل واحد من المسلمين، يجب عليه أن يرفق به، فما بالك بالذي يلي أمر اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مجموعة من البشر.
فالمدير في مدرسته، والوزير في دائرته، وكل صاحب سلطان وولاية، وكل صاحب أسرة يجب أن يرفق بمن تحت يديه، وبمن هو مسئول عنه، وإلا فإن الله سيشق عليهم يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً، فالدعاء عام: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءٌ مستجاب، ويؤكد عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن عائد بن عمر رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن شر الرعاع الحطمة) الراعي الذي يرعى الغنم، أو البقر إما أن يكون رحيماً بها، فيذهب بها إلى موارد الماء والعشب، ويريحها، ويعطيها فترة النوم والراحة، وإما أن يتعبها فيشق عليها، ويشد عليها، ويمنعها الأكل والماء والعشب، هذا الرجل الذي يحطم هذا القطيع الذي يرعاه هو من شر الناس.
(إن شر الرعاع الحطمة) أي: شر الرعاع الراعي الذي يحطم قطيعه، قال العلماء في شرح الحديث: هذا مثل لطيف ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للراعي والرعية، فشر الناس الذي إذا تولى أمر رعية من المسلمين، جعل يحطمهم كما يحطم ذلك الراعي الغنم، وخيرهم الذي يرفق بهم ويلين معهم، ويسد خلتهم.
وهذا عمر رضي الله عنه خرج في الليل يعس، فسمع صوتاً من أحد البيوت، فاقترب منه فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل أداعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
تقول المرأة وهي زوجة لرجل ذهب في الجهاد، وتشكو نفسها، ولولا مخافة الله لحصل أمراً آخر، فـ عمر رفيق بالرعية، فقام فجمع النساء، فسأل: [كم تستطيع المرأة أن تصبر على زوجها؟ فقلن له: أربعة أشهر، فقال: إذاً لا أحد من الجنود يتغيب عن زوجته أربعة أشهر] فكان يجعل بينهم مناوبات فيذهب الأول ويبقى الثاني ويرجع الأول ويذهب الثاني وهكذا حتى تبقى العلاقة بين الزوج وزوجته، فكان رفيقاً برعيته، وهكذا يجب أن يكون كل من تولى مسئولية، أو أمراً من أمور المسلمين أن يكون رفيقاً بهم، فبعض الناس تجدهم يشدون على من تحت أيديهم من المسلمين، ويهلكونهم بالأعمال، وهذا -أيها الإخوة- فيه خطر عظيم، فيسبب العصيان والتمرد، ويسبب الوحشة في النفس والكراهية حتى على مستوى الصغير في البيت تجد الأولاد يكرهون الأب إذا كان شديداً عليهم، والزوجة تكره زوجها إذا كان شديداً عليها، وقد يتمرد الأولاد ويعصون الأب بسبب فقدان الرفق.
فإذاً هذا هو مدار التعامل، ومدار استقامة الأمور.