الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فهذا موضوعٌ أخلاقيٌ عظيمٌ من الأخلاق الفاضلة التي حث عليها الإسلام حثاً شديداً كما سيتبين معنا إن شاء الله في طيات الآيات والأحاديث، وهذا الموضوع -أيها الإخوة- موضوع الرفق يدخل في أعمال كثيرة من الأعمال التي يقوم بها الإنسان المسلم، ولعلكم تتبينون معي إن شاء الله تعالى بحوله وقوته دخول هذا الخلق العظيم في مواضيع شتى من الأشياء التي يؤديها المسلم يومياً، بل إنه يدخل في أبواب عظيمة من أبواب الإسلام.
والرفق -أيها الإخوة- كما يعرفه علماؤنا يقولون: الرفق: هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل واللطف وحسن الصنيع، وضده العنف والشدة, والرفق -أيها الإخوة- نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، من أعطاه الله إياها، فقد فاز بخيرٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة، ولذلك امتن الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رفق ولان لإخوانه المسلمين، فجمعهم الله عز وجل على رسوله بهذا الرفق وبهذا اللين، فقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] قال ابن كثير رحمه الله: أي لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم، لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم.
فالدرس الأول من هذه الآية يا إخواني: أنك إذا سألت ما هو الشيء الذي يجمع قلوب الناس وأنفسهم في مجتمع واحد على رجل واحد تكون كلمتهم واحدة ويداً واحدة؟ إنه الرفق واللين الذي قال الله تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وإذا سألت عن سبب تفرق القلوب الذي ينتج عنه تفرق الأجسام والتنازع الذي يحصل بين أفراد المجتمع، فاعلم يا أخي المسلم بأنه العنف والحدة والغلظة التي هي ضد الرفق، ولذلك قال عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ولذلك كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن قول الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو إذاً بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ، أما صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة من قبلنا، فهو ما رواه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادٍ صحيح إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] قال: (في التوراة مقابل هذه الآية: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن ليعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتحوا بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).
رواه البخاري.
فالشاهد من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قوله: ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس فظاً، ولا غليظاً، وهذه الصفة في الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي جمعت عليه الصحابة، وفتحت له قلوب الناس، فكانوا معه يداً واحدة، يأتمرون أمرهم على قلب رجلٍ واحدٍ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل رجل يريد أن يؤلف الناس على الإسلام أن يلين لهم ويرفق بهم، وهذا الخلق العظيم من الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، فلذلك روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) قال ابن حجر رحمه الله في كتاب الأدب من صحيح البخاري عن هذا الحديث: يعني: أن الرفق يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، تأتيك بالرفق أشياء، وتنفتح لك مغاليق أمورٍ لا تنفتح لك بغير الرفق مطلقاً، ولذلك قال الشاعر:
من يستعن بالرفق في أمره قد يخرج الحية من جحرها
أشياء كثيرة قد تبدو مستحيلة في ظاهرها، وفي بداية الأمر صعبة جداً، تنال بالرفق، الرفق هو الذي يأتيك بها؛ لأن الله كتب أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، يعطي عليه أشياء صعبة مستحيل أن يعطيها بغير الرفق، أما بالعنف، فلا يأتي شيء البتة، ولا تستفيد منه مطلقاً، وتظل الأمور منغلقة عليك.
والقول الثاني في هذا الحديث كما يقول ابن حجر رحمه الله: وقيل المراد يثيب على الرفق ما لا يثيب على غيره، يعني: يعطي ثواباً على الرفق ما لا يعطي على شيء آخر، ولذلك يقول عليه السلام مبيناً الأثر السلبي والدرجة الواطئة التي يكون عليها الرجل العنيد الذي حرم الرفق بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء مرفوعاً: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير) إذا لم يوجد رفق يعني: لا يوجد خير، هكذا بهذه البساطة، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) قال النووي رحمه الله: أي: يحرم كل الخير الناشئ والناتج من الرفق، وغلظ القلب كما قال العلماء: هو عبارة عن تجهم وجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكى على أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبلِ
فالذي ليس عنده رفق، ولا عنده هذا اللين، لن يبكي على المحرومين من خلق الله مطلقاً.