الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاعلموا -يا إخواني- أن محبة الله تعالى والطريق إليها موضوع له أهمية عظيمة في حياتنا التي نعيشها اليوم.
فمن الأسباب المهمة الملجئة لطرق الموضوع: أنه إذا تأمل الإنسان نفسه، وتأمل مَن حوله، فإننا نجد -أيها الإخوة- أن كثيراً من عباداتنا مثل الصلاة وغيرها، قد تحولت إلى عادات.
فصرنا ندخل المساجد، ونكبر وراء الإمام، ونقوم بأداء الركعات، ثم نسلم ونحن لم نفقه من أمر الصلاة شيئاً.
وإذا أتى الصيام تناول الواحد السحور بعملية أوتوماتيكية ثم يفطر، وهكذا يمر شهر رمضان وهو لم يستفد من الصيام شيئاً.
ويذهب الواحد إلى الحج، وقد تثور في نفسه بعض المشاهد التي تذكره بالله عز وجل؛ ولكن إذا كرر هذه العبادة، فإن هذا الحماس وهذا التأثير يتلاشى.
كذلك -يا إخواني- كثيرٌ من الذين يتمسكون بالإسلام، ويلتزمون به يكون تمسكهم بالإسلام في البداية على غير أساس صحيح؛ لأنهم دخلوا في هذا التمسك تقليداً لا محبة لله عز وجل، كأن يرى مَن حوله يصلون فيصلي، ويرى من حوله لا يسمعون الأغاني فيترك الأغاني، ويرى مَن حوله يقصر ثوبه فيقصر ثوبه، تقليداً لا حباً في الله عز وجل، فبَعد فترة من الزمن ينتكس هذا الشخص وينقلب على عقبيه.
فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الموضوع (محبة الله عز وجل) موضوع مهم وخطير جداً.
حتى نصحح العبادات، وحتى نصحح الالتزام بالإسلام، ونصحح طريق السير إلى الله تعالى لا بد أن نعرف: ما هي محبة الله؟ كيف تكون محبة الله؟ ما هي علامات حب الله للعبد؟ وما هي الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل؟ أشياء كثيرة لا بد من معرفتها.
والمحبة -أيها الإخوة- من أعمال القلوب؛ لأننا نعلم أن الإيمان هو: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
وهنا كلامٌ سأسوقه إليكم الآن وهو مُجَمَّعٌ أكثره من كلام العالم الرباني شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى، جمعتُ بعضَه، ووجدت بعضه مجموعاً في بحوث لبعض الأشخاص.
ولا بد قبل البداية -أيها الإخوة- أن أسرد عليكم مقدمات لهذا الموضوع ذكرها هذا الرجل الفذ في بعض كتبه؛ لأنها عظيمة في المعنى.
فيقول رحمه الله تعالى: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظَفَر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرَّك بها النفوس -يعني: بالمحبة- إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، والمحبة: هي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه " عبادة ليس فيها محبة كالجسد لا روح فيه، تدخل وتخرج من العبادة بدون أي تأثير.
ثم يقول رحمه الله: " المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون فهي قوت القلوب -محبة الله قوت القلوب، هي الوقود، وهي الدافع للأعمال- وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو في جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبداً بغيرها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة.
والمحبة -أيها الإخوة- تتنوع، كل إنسان يحب شيئاً، وأنت إذا نظرت إلى مراد الأشخاص ومحبيهم في الدنيا، وجدتها متعددة! فسبحان من صرَّف عليها القلوب أنواعاً وأقساماً بين بريته، وفصلها تفصيلاً! فجعل لكل محبوب لمحبه نصيباً! فقسمها بين: - محب للرحمن.
- ومحب للأوثان.
- ومحب للنيران.
- ومحب للصلبان.
- ومحب للأوطان.
- ومحب للإخوان.
- ومحب للقرآن.
- ومحب للنسوان.
- ومحب للأثمان.
يعني: الأموال والتجارات.
- ومحب للألحان.
يعني: الأغاني.
فهي شجرة: عرقها الفكر في العواقب -ماذا سيحدث بعد الموت- وساقها: الصبر، وأغصانها: العلم، وورقها: حسن الخلق، وثمرتها: الحكمة.
فإذا غُرِسَت هذه الشجرة في القلب، وسُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهما ركنا العمل الصالح أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بأمر ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى.
ولأجل المحبة -أيها الإخوة- أنزل الله الكتاب والحديد، فجعل الكتاب هادياً إليها، ودالاً عليها، وجعل الحديد لمن خرج عنها وأشرك بها مع الله أحداً غيره، ولذلك ذم الله المشركين الذين يحبون أندادهم مثل محبة الله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا شرك المحبة ".