ثم اتجها عبر طريق الساحل؛ أيضاً تغيير الطريق المتوقع من الأسباب: (فأخذ بهما طريق الساحل) من أسفل مكة إلى الساحل حتى رجع مرة أخرى على طريق المدينة، على طريق الساحل فأبصر أحد الأشخاص بهم يمشون، والله عزوجل يقدر الأحداث حدثاً تلو الآخر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
فأخبر هذا الرجل شخصاً من قريش اسمه: سراقة بن مالك بن جعشم، يقول له: إنني شاهدت أشخاصاً على طريق الساحل؛ وأنا أظن أن هؤلاء الأشخاص محمد وصاحبه، ومعهما الخادم.
وسراقة بن مالك يعلم بأن قريش قد جعلت على كل رأس مائة من الإبل؛ الدية كاملة لمن يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه أمواتاً، أو مأسورين.
وسراقة بن مالك طمع في المائة؛ طمع في الدية، فكذّب الرجل الذي شاهد الأشخاص، قال: ليس ذاك ومستبعد أن يكونوا هم، هؤلاء فلان وفلان أشخاص آخرون قاموا من عندنا قبل قليل وذهبوا في ذلك الاتجاه أمام أعيننا، فطمع أن يكون له كل المال وهو مائة من الإبل.
ثم استعد سراقة بن مالك للغنيمة، فأمر جاريته أن تُجهز له أمره، وعلى عادة المشركين الاستقسام بالأزلام قبل المضي في الأمر الخطير؛ فالاستقسام بالأزلام وهو نوع من الشرك: يضع الأزلام؛ وهي مثل السهام التي لا نصل لها ولا ريش؛ واحد مكتوب عليه: نعم، وواحد مكتوب عليه: لا، وواحد فارغ، يجعلها في مكان يسحب منه، ثم يسحب؛ فإذا طلع نعم مضى، وإذا خرج لا رجع، وإذا خرج الفارغ أعاد القرعة أو أعاد السحب.
سراقة بن مالك لما أراد أن يُغادر استقسم بالأزلام؛ والاستقسام بالأزلام: هو تشاؤم، أو شيء لا علاقة له بالواقع، ولذلك هذا من سخافة العقل؛ لأنه ما العلاقة بين السحب نعم أو لا، وبين قضية أنه يذهب في السفر؟ أم لا يذهب في السفر؟ لكن يظنون أن الصنم يختار لهم الخير.
استقسم؛ فلما سحب فإذا بالسهم المكتوب عليه: لا، فكره هذا لأنه يريد المائة من الإبل، يكره أن يخرج له السهم مكتوب عليه: لا.
ولكنه بالرغم من ذلك مضى لأمره، جهز سلاحه ولبس لأمته -الدرع- وخفض رمحه لئلا يضرب عليها بريق الشمس فينعكس فيرى من بعد، فيتبعه أحد يشترك معه في الغنيمة، ولذلك جعل رمحه على الأرض ومضى.
ثم أسرع بفرسه في تلك الجهة التي أخبره الرجل أنه رأى فيها الأشخاص، وفي الطريق أعاد مرة أخرى الاستقسام بالأزلام وأخرج الخريطة المستطيلة التي تُوضع فيها الأزلام ويسحب منها وسحب، وقلنا: الأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، فخرج الذي يكره، أي: لا يمضي، لا تضرهم، ولكنه استمر حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بعيد فرآه أبو بكر رضي الله عنه.
فقال للنبي عليه الصلاة والسلام أدركنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا.
فنذكر في هذا الموقف يقين الأنبياء بالله عزوجل، وثقتهم بنصر الله سبحانه وتعالى، وحفظ الله سبحانه وتعالى، وتمام التوكل على الله.
هذا التوكل الصحيح، الأخذ بالسبب وتفويض الأمر إلى الله أن يكلأ ويحفظ ويأتي بالنجاح، ويحقق المطلوب، فقد أخذوا بكل الأسباب، ثم كون سراقة لحقهم بعد ذلك بالرغم من كل هذه الأسباب، فهذا شيءٌ ليس بأيديهم منعه ولا عدم حصوله، إذاً.
ماذا بقي؟ التوكل على الله عز وجل من قبل ومن بعد، فقال: (اللهم اصرعه) وفي رواية: (اللهم اكفناه بما شئت) هذه العبارة التي قالها غلام أصحاب الأخدود لما كان ذاهباً مع حرس الملك فوق الجبل وفي القارب فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فرجف الجبل فسقطوا وصرعوا، وانقلب القارب فغرقوا وبقي هو على قيد الحياة سليماً حتى أتى الملك.
هذه العبارة التي كل إنسان إذا وقع في ورطة أو أراد أحد أن يعمل به شراً يقول: اللهم اكفنيه بما شئت.
لما قال: (اللهم اكفناه بما شئت، اللهم اصرعه) فصرعه فرسه وساخت يدا الفرس، ووقعت على منخريها، دخلت يدا الفرس في الأرض وساخت حتى بلغت بطنها في الأرض، فارتطمت فرسه إلى بطنها، ودخلت يدا الفرس، أي: مقدمة الفرس، وهذا يدل على أن ركبتي البعير أو الفرس في يديه وليس في رجله، فساخت يدا الفرس حتى بلغتا الركبتين، والفرس صارت بطنها ملتصقة بالأرض.
فوثب عنها سراقة، فقلت: ما هذا؟ ثم زجرتها فنهضت، وقامت تحمحم؛ والحمحمة صوت الفرس، ما كادت ترتفع الفرس إلا وثار عثانٌ؛ دخان من غير نار أو غبار، ثار الغبار، فعلمت أنه منع مني، أي: علمت أن المسألة الآن مسألة إلهيه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الوصول إليه، لا يمكن إيذاؤه، ولا القبض عليه، ولا الوصول إليه، عند ذلك أُسقط في يدي سراقة ونادى بالأمان.
الآن هذا رجل مُطارِد مُسلح تكون النهاية أنه يطلب الأمان، وهو لابس الدرع ومعه الرمح ومعه الجهاز ويطلب الأمان مستسلماً قائلاً: قد علمت يا محمد أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه والله لأُعمّين عليك من ورائي، أي شخص يطلبك ويطاردك أنا سأكفيكهُ، ورجع سراقة وقد تعهد بأن يُحافظ عليهما ويقول: وأنا لكم نافع غير ضار، وأنا راجع ورادهم عنكم، يقول سراقة في تلك اللحظة: وقع في نفسي حينما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف أنه منصور وأنه ظاهر، وأنه سيستعلي على من حوله.
بالإضافة إلى ذلك فإن سراقة أتى ببقية الأخبار؛ كانت الأخبار إلى حد مغادرة الغار، وبقية الأخبار أتى بها سراقة إليهم، فأخبر بما حصل أثناء غيابهما في هذه الفترة، قال: إن قريشاً جعلت جائزة لمن يأتي بكما كذا وكذا وكذا.
وسراقة بالإضافة إلى ذلك عرض عليهما الزاد والمتاع، وقال لهما: إن إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهماً من كنانتي أمارةً إلى الراعي، حتى يُصدق الراعي أنكما من طرفي -هذه علامة سهم من كنانتي أي أن له علامة خاصة يعرفها الراعي- فالنبي عليه الصلاة والسلام رفض، فلم يأخذا منه شيئاً.
قال: (لم ينقصاني مما معي شيئاً).
قال: فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال: (لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له).
طلب منه شيئاً واحداً فقط، قال: (أخفِ عنا).
فقال: قد كفيتم ما هاهنا.
وجعل سراقة لا يلقى أحداً -بعدما رجع- من كفار قريش، ذاهباً في نفس الاتجاه إلا قال: قد كفيتم ما هاهنا، كفيتكم ما هاهنا، أنا فتشت من هذه الجهة فلا يحتاج أنكم تبحثون، لا يلقى أحداً إلا رده، ووفىّ لهما.
وفي رواية أنه قال: (يا نبي الله مرني بما شئت.
قال: قف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا، فكان أول النهار جاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة له) أي: حارساً له بسلاحه.
والله على كل شيء قدير، وهذا يثبت قدرة الله على كل شيء، فقد كان هذا الرجل ذاهباً للقبض عليهما مسلحاً في أول النهار فيرجع في آخره حارساً عليهما، عكس الذي كان ذاهباً من أجله تماماً، يُضلل الباحثين ويحرس الجهات؛ يحرس الجهة والطريق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجد أحداً إلا رده، يقول: قد فتشت قبلك ارجع لا يوجد لهما أثر.
وقد طلب سراقة قبل أن يرجع حاجة: كتاب أمن بيني وبينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم) كتب له في جلد، أو في ورقة، أو في خرقة جعله سراقة في كنانته، كتب له كتاب أمان، سبحان الله! الآن المتوقع أن الخوف مع المُطارَدين، وإذا بالمطارِد المسلح يطلب كتاب أمان، يقول: اكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب له كتاب أمان.