وكذلك فإن العقيدة هي الآصرة التي كانت تربط بين هؤلاء، وهذه القضية في غاية الأهمية، وهذا التآخي معبر عن اللحمة التي كانت هي نسيج المجتمع المسلم، وهي رابطة العقيدة، وأنها أقوى من رابطة القربى والدم والانتماء إلى أصل عرقي أو قبيلة من القبائل، ولذلك فإن المجتمع كله قد انصهر في هذه البوتقة -بوتقة العقيدة- وحصل نسيج واحد فيه تآلف وانسجام، وكان سبباً وعاملاً مهماً من عوامل النصر على الكفار.
أبو عبيدة لما رأى أباه يقاتل في صف المشركين في بدر قصده فقتله، ورأى أبو حذيفة أباه المشرك وهو يسحب ليرمى في القليب بـ بدر دون أن ينكر قلبه ذلك.
وأما مصعب بن عمير فإنه رأى أخاه أبا عزيز بن عمير، وكان أبو عزيز مشركاً خرج مع المشركين وأسر في المعركة، فـ مصعب يقول للأنصاري الذي أسر أبا عزيز بن عمير: اشدد يدك عليه، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.
أي: إن له أماً تدفع، وهذا مع أنها أمه، وهذا المأسور أخوه، ولكنه مع ذلك يقول لأخيه الأنصاري المسلم: اشدد يدك عليه، واطلب الفدية العالية فإن له أماً تدفع.
وأبو عزيز كان صاحب لواء المشركين بـ بدر، فـ مصعب يقول هذا الكلام، فقال له أبو عزيز: يا أخي! أهذه وصايتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.
الأنصاري أخي دونك، أنت ليس بيني وبينك صلة.
ولذلك فإن المنافقين حاولوا بشتى الوسائل أن يفصموا هذه العرى التي حصلت بين المهاجرين والأنصار، ولذلك كانت خطوة عبد الله بن أبي المنافق خبيثة للغاية جداً، حيث إنه لما سمع أن النزاع حصل بين المهاجرين والأنصار استغل الفرصة مباشرة، وقال: لقد كاثرونا في الأموال وفعلوا وفعلوا، إنما مثلنا ومثلهم كمثل القائل الأول لما قال: سمن كلبك يأكلك.
صرفنا عليهم فلما تقووا قاموا يتحدوننا، وأوشك بسببه أن تحدث فتنة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الله سلَّم.
وولد عبد الله بن أبي اسمه عبد الله أيضاً، وهو الذي بلغت به العزة الإسلامية أن يقف على باب المدينة ويمنع أباه من الدخول، قائلاً له: [والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز]؛ لأن عبد الله بن أبي بن سلول هذا المنافق، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وولده مسلم سمع الكلام فسبقه إلى المدينة، ووقف على الباب ومنع أباه من الدخول، حتى يعترف أنه هو الذليل والنبي عليه الصلاة والسلام هو العزيز، وهذا واضح جداً في الدلالة على قوة العقيدة، وأن الإنسان كان يفاصل أباه وأخاه وأهله وعشيرته في سبيل الدين، ما انتصروا إلا بذلك، لم يكن هناك مجاملات على حساب العقيدة.
نوح عليه السلام لما نادى ربه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، فقال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] فالاعتبار برابطة العقيدة، وليس بالأبوة ولا بالقبيلة، ما انتصر المسلمون الأوائل إلا بعدما تخلصوا من هذه الأشياء، من الرواسب الجاهلية، أو التعصب للقبيلة، أو التعصب للبلد والعلاقة العائلية، فكان تعصبهم إنما هو لله ورسوله، وقطعت الوشائج والعلاقات ولم يبق إلا علاقة الدين، ورابطة العقيدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24].
وقد فارق الصحابة الأهل والأموال والمساكن وهاجروا إلى الله ورسوله، فقام المجتمع قياماً صحيحاً مبنياً على العقيدة والولاء لله والرسول، والعلاقات أخوة بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وكانت المحبة هي أساس هذه الأخوة، وتمثل في ذلك المجتمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ولذلك لم يكن يبيت الواحد شبعان وأخوه المسلم جائع، لم يحصل ذلك، ولذلك كانوا يؤثرون على أنفسهم، ويعطي الواحد منهم أخاه عشاءه وعشاء أولاده، ويبقى هو وزوجته وأولاده جياعاً، بهذه الصورة قام المجتمع الإسلامي.