لا شك أن حلق العلم من الأمور التي ينبغي الاهتمام بها لقلة العلم في هذا الزمان وتفشي الجهل، فهي من ذكر الله تعالى، ولما كانت حلق العلم قد اعتورها ما اعتورها من التقصير والآفات، فلعلنا نتحدث عن بعض ما يتعلق بحلق العلم، من الشروط والآداب وما كان في عهد السلف، ونناقش بعض عيوبنا في حلق العلم أو حلق الذكر، لنتوصل إلى سبلٍ لتصحيح الواقع، ونحث أنفسنا على الاهتمام بهذه العبادة العظيمة، وهي حلق العلم والذكر.
كان السلف رحمهم الله عز وجل يهتمون بقضية الشيخ، ويتوسمون الخير في المشايخ، ويحرصون على حضور من يظهر لهم الخير فيه، فهذا أبو إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مجلس حمص فجلست في حلقة فيها اثنان وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الرجل منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، ثم يقول الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، وفيهم رجلٌ أدعج براق الثنايا، فإذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه، ورضوا بما قال، فلم أجلس قبله ولا بعده مجلساً مثله، فتفرق القوم وما أعرف اسم رجلٍ منهم، فبت بليلة لم أبت بمثلها، وقلت: أنا رجلٌ أطلب العلم، وجلست إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعرف اسم رجلٍ منهم ولا منزله، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد، فإذا أنا بالرجل الذي كانوا إذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه يركع إلى بعض إسطوانات المسجد- يصلي- فجلست إلى جانبه، فلما انصرف قلت: يا عبد الله! والله إني لأحبك لله، فأخذ بحبوتي حتى أدناني منه، ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قلت: إي والله إني لأحبك لله؛ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المتحابين بجلال الله في ظل الله وظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) فقمت من عنده الحديث، أو بقية القصة.
وقد حصل أيضاً في رواية أخرى من كلامه رحمه الله أنه سمع رجلاً من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حقت محبتي للذين يتحابون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتباذلون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتزاورون فيّ) قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت، قلت: من الرجل؟ قال: معاذ بن جبل، ومعاذ بن جبل الذي أعجب ذلك الرجل هيأته وسمته رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي كان مرجعهم، وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأعلمهم بالفقه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يتقدم العلماء يوم القيامة برمية حجر، رأى أبو إدريس من سمته وهيأته ما حببه فيه وجلس إليه، ويمكن معرفة العالم الثقة أو المعلم الثقة، أو طالب العلم الثقة من خلال السؤال والتفرس، وكانوا يبحثون عن الحلق التي يظهر حسن السمت في طلابها، وهذه كانت ميزة من ميزات العلم والذكر في عهد السلف؛ فكان الإنسان يميز من الجالسين حالاً عجيبةً، يقول عبد الله بن محمد بن عبيد في مسعر بن كدام وهو من كبار علماء السلف:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام
فتتميز حلقهم بالعفة، والمجلس نفسه فيه سكينة ووقار، ليس مجلس لغط ولا هرج ومرج، لكن مجلس خشوع وسكينة، ويقول أبو حازم رحمه الله وهو من جلساء زيد بن أسلم في حلقته، يقول: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حضراً فقهاء، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، فما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما قط، إذاً كان الجالسون في الحلق من الذين يتخلقون بالأخلاق الحسنة، وليسوا حفاظاً فقط، وعندهم نبوغ في الفهم، فكانت قضية الأخلاق والآداب مهمة، يقول: أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، أي: يواسي بعضنا بعضاً، فالذي عنده سعة يعطي الذي ضاقت حاله، هذه أقل خصلة فما بالك بما هو أعظم؟ وفي نفس الوقت لا يوجد مراء في المجلس، لا يوجد نقاشات فارغة، ما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما، ولذلك حصلت الاستفادة والبركة، لكن لما يجلس بعض الناس في حلق، ويكون همهم الجدال والنقاش حتى لو لم يكن مفيداً، وأن يظهر كل واحد صحة رأيه وفساد رأي الآخر ونحو ذلك من الكلام، وينتصر كل إنسان لنفسه، ويريد إبراز مواهبه في النقاش، عندما تكون الأغراض مشبوهة، والنوايا مشوبة بمثل هذه الترهات لا تحصل البركة في المجلس ولا الفائدة، ولذلك قال: ما رئي منا متماريان ولا متنازعان، فكانوا يسمعون العلم، فيستفيدون، لا يوجد مراء، ولا شيء يضيع الأوقات.