كم نجترئ في أوقاتنا فلا نكاد نضبط ألسنتنا من كلام باطل ولغو هادر، أو شتم مقذع، أو غيبة محرمة، أو نميمة مؤججة للفتن والصراعات، فإذا جاء رمضان تذكرنا قول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، تذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم).
نحن نرى في رمضان صورة التقوى وهي مشرقة، فالناس يحرصون على الاستجابة، ويجتنبون -خاصة في نهار رمضان- أقل القليل من المخالفات أو من المكروهات، حرصاً منهم على أداء العبادة على وجهها، والإتيان بالفريضة على كمالها، فتجد الناس وهم يحجمون ويضبطون أنفسهم، ويتقون مواطن الخلل والزلل، فلا تكاد تسمع تلك الكلمات، ولا تكاد ترى تلك المشاحنات، ولا تكاد تلمس النفوس المتساهلة في ارتكاب المحرمات، فهي صورة جميلة وضيئة، حتى إن السائلين يعبرون عن ذلك، فهذا يسأل ويقول: كنت أسير فأتى غبار فواجهني، فهل إن دخل غبار أفطرت؟ وذاك يسأل عن عطر أو بخور شمه: هل في ذلك ما يفسد الصوم؟ وثالث يسأل ورابع يسأل، يسألون عن دقائق الأمور؛ لأن النفوس ارتقت، والهمم نحو الطاعات سمت، ولأن الإنسان المؤمن إذا حيي قلبه فإنه يتقي الله عز وجل في صغير الأمور كما يتقيه في جليلها، وترى العيون وقد غضت عن المحرمات، والآذان وقد صمت عن سماع تلك الأمور الآثمة الماجنة، ومع ذلك -كما قلت- يهون هذا في نفوس الناس، ويجرئهم مرة أخرى على أن لا يكونوا محترزين عن المحرمات تلك الوسائل الإعلامية بما فيها من هذه الأمور المؤلمة المحزنة، ويطول الحديث ولا ينقطع عن ذلك.
ولعلنا -ونحن في هذه الأوقات، وقبل دخول شهرنا- نعقد العزم على أن لا نجعل لهذه الوسائل سبيلاً لتغرقنا في بحار الغفلة بعد ذكر الله سبحانه وتعالى، ولتجرنا إلى حياض المنكرات مشاهدة وسماعاً.
ونحن في موسم التقوى علينا أن نتقي عذاب الله عز وجل بفعل المأمورات وترك المنهيات.
والتقوى هي غاية عظيمة من غايات الفريضة، فكيف نضيعها؟ كيف نرضى أن نخرج من غير أن نحصل عليها، ومن غير أن تعمر قلوبنا، ومن غير أن تغمر نفوسنا، ومن غير أن تشيع وتنتشر في مجتمعنا؟ لذلك احذر كل ما يناقض هذا التغيير؛ فإن التغيير جاءت به الشريعة، وجاءت به الفريضة، وجاءت به الفضائل، وجاءت به الخصائص، وجاء من لا أدري بم أسميهم، هؤلاء الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن طريق الله، ويصدوهم عن طاعة الله، ويردوهم إلى ما هم عليه من غفلة، نسأل الله عز وجل السلامة.
رمضان إن الأنفس الجرداء تزكو حين تقبل كالربيع وتورق أهلاً بيومك صائمين عن الأطا يب راغبين إلى الرضا نتشوق أهلاً بليلك قائمين لربنا وقلوبنا بالحب نشوى تخفق حسب الموفق فرحتان أجل من هذي الحياة وإن كساها رونق تلك المفاضلة، نشعر بأن لحظة في سحر في ليلة من ليالي رمضان تعدل الحياة كلها، تعدل كل تلك البهارج والزخارف، تعدل كل تلك العورات المكشوفة والمواقف المحمومة والكلمات الساقطة التي تواجهنا بها وسائل الإعلام.
لمرارة الحرمان فيك حلاوة ولزهمة الأرواح عطر يعبق قد ذاقها مستروحاً من أدركوا حكم الشريعة فاستجابوا واتقوا ليت الذين استثقلوك فأعرضوا وردوا ينابيع التقى وتذوقوا ما سرهم إذ ذاك أن ممالك الد نيا لهم من دون ذلك مرفق.
من ذاق عرف، عرف لذة التقوى، ولذة العبادة، ولذة الطاعة، ولذة الدموع المنسكبة، ولذة الدعوات المرتفعة، ولذة التسابيح المتوالية، ولذة كل هذه المعاني العظيمة، ولذة الصلة بالله عز وجل والاستقامة على أمره.
هذه صورة نشهدها عندما نرى المساجد وهي تغص بالمصلين، عندما نرى الدعوات وهي ترفع، والدموع وهي تسكب، كل ذلك مشهد يراه المسلمون من خارج هذه البلاد من نقل صلاة التراويح من بيت الله الحرام تذرف دموعهم شوقاً لذلك، تخفق قلوبهم وأنفسهم لهفة لذلك، يرون أن كل ما هم فيه من بهرج الدنيا ونعيمها لا يساوي لحظة إذا أقبلوا إلى هذا البيت العتيق، أو إلى مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
فلماذا مرة أخرى يغزونا أولئك بفتنة الدنيا ليخرجونا من لذة الطاعات، ويفسدوا علينا حلاوة العبادة.
هم يفعلون فهل تستجيبون؟ هم يسعون إلى هذه الأهداف فهل أنتم موافقون؟ الأمر بيدك والحل عندك، والهزيمة بين جوانحك، والهمة في نفسك، والعزيمة أنت صاحبها، فلا ينبغي أن تصرعك هذه الفتن وتلك الشهوات الساقطة الضعيفة وأنت صاحب الإيمان القوي واليقين الراسخ والتقوى السامية المرتفعة عن كل هذه الترهات التي ينبغي أن تتنزه عنها.