أولاً: كنز القرآن والتلاوة.
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته طعامه وشهوته.
ويقول القيام: أي رب! منعته النوم.
فيشفعان فيه) هذه الخصيصة لهذا الشهر التي تذكرنا بكتاب الله عز وجل وبدوره في حياتنا وبواجبنا نحوه، وتذكر بأحكامه، وبخفقات قلوبنا، وخطرات عقولنا، وكلمات ألسنتا، وحركات جوارحنا، وأساس علاقاتنا ومعاهدتنا واتفاقياتنا، وسائر جوانب حياتنا.
لم ينزل القرآن لتترطب به الألسنة فحسب، ولا لتشنف الآذان بحسن تلاوته فقط، ولا لتدمع العيون تأثراً ببعض معانيه، ثم تمضي ساهيةً لاهية، إنما أنزل ليغير واقع الحياة وفق منهج الله، ويغير النفوس في أعماقها والقلوب في سويدائها على ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى، ونحن نعلم أن القرآن إنما أنزل للعمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ونعلم الشكوى التي جاءت في آيات القرآن: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، كنز عظيم تذكرنا به هذه الأيام المقبلة على ذلك الشهر الفضيل، وتذكرنا به أم المؤمنين عائشة يوم تقول: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)، فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحيي منه، كلمات قالها القرطبي في مقدمة تفسيره، ننتقل منها لندرك أن الواقع فيه شيء من المناقضة العجيبة، والمفارقة الغريبة، والصدود الذي لا يبعد أن يتصف به بعض المسلمين بهذا الهدي الوارد في كتاب الله عز وجل، ونحن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد بين لنا الغاية فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]، فمن أي الفريقين أنت؟ استمع لـ ابن مسعود رضي الله عنه وهو يقول في هذا المعنى: (إن حق تلاوته أن يحل حلاله، وأن يحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل).
وعن ابن عباس: ({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]: (يتبعونه حق اتباعه).
وننظر إلى هذا الواقع على مستوى الفرد والأمة فنرى ما نرى من أمور ظاهرة جلية، فالهجر بأنواعه كلها يكاد يكون ظاهراً جلياً، فلا القرآن يتلى، ولا آياته تقرأ على الوجه الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الحفظ في القلوب كما ينبغي عند جمهور المسلمين، وأما التدبر والتفكر والاتعاظ والاعتبار فدون ذلك بمراتب، وأما العمل والالتزام والتطبيق فدونه كذلك، فضلاً عن التعليم والدعوة والنشر والجهاد لنشر أنور القرآن وبيان معانيه، لست أقول ذلك تأييساً، ولا أقوله نظراً للصورة السوداء دون البيضاء، غير أننا اليوم نحتاج إلى مثل هذه المفارقة والمصارحة التي ذكرها لنا علماؤنا وأئمتنا في الصلة بكتاب الله عز وجل، فهذا الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: (حامل القرآن- حامل رسالة الإسلام- لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا أن يسهو مع من يسهو، ولا أن يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن) فهل ذلك ظاهر في واقعنا وحياتنا؟ ولنتحدث أيضاً بصورة أجلى وأوسع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أليست هذه آيات قرآنية؟ أليست نداءات إيمانية؟ أليست أوامر ربانية؟ أين هي في واقع مسيرة الأمة اليوم وهي تسارع إلى اعتبار الأعداء أصدقاء وإلى اعتبار المحاربين المعتدين من اليهود وأحلافهم أصحاب قلوب رحيمة وأصحاب اتفاقيات ومعاهدات للصلح والسلم؟ بل نرى ما هو أكثر من ذلك، نرى التهاوي والتسارع إلى المصطلح البغيض الذي كله شر وضر يجوس خلال الديار، وينخر في العقول والأفكار، ويدمر في قوة الأمة وتماسكها، التطبيع وما أدراك ما التطبيع؟ القرآن يدعونا أن نتجه إلى أمتنا، إلى إخواننا، إلى توحد صفوفنا وترابط قلوبنا وتماسك صفوفنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، ويوم تتقطع الأوصال بين بلاد العرب وبلاد المسلمين، وتمد الجسور وتفتح الأسواق بيننا وبين أعدائنا الذين ما زالوا إلى يومنا هذا تنطق بالعداوة وتصرح بها ألسنتهم، وتظهر في أعمالهم، والدماء ما زالت تسفك، والدور والبيوت ما زالت تهدم، والأرض ما زالت تسلب، والأعراض ما زالت تغتصب، بل الأمر متضاعف متزايد لا في رقعة هي قلب قضايانا الإسلامية في فلسطين، بل فيما وراء ذلك، في العراق وغير العراق، ثم من بعد ذلك نستقبل الشهر لنستعد بمزيد من التلاوة والقراءة دون عقل مفكر، ودون قلب متعظ، ودون سلوك متغير، ودون أمة تعود إلى الله عز وجل وتحقق المعاني القرآنية التي جاءت في هذا الكتاب العظيم.
أي أمر أمر هذا؟ أين غيبت العقول؟ وأين ماتت القلوب؟ لقد ذلت النفوس يوم أعرضت عن كتاب الله وعن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لنستمع إلى هذا القرآن الذي ننتظر شهره ونستعد لننفض الغبار عن المصاحف ونتلو الآيات دون ما هو أكثر من ذلك، لنستمع إلى قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:169 - 170]، تأمل الآيات التي تروي لنا شأن بني إسرائيل، وكأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتأمل دلالة الآيات نستحضره، ويهجم علينا نصه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
من هؤلاء؟ هم الذين يسير بعض أبناء أمتنا خلفهم حذو القذة بالقذة، الخطوة وراء الخطوة، والتصريح هو رجع لذلك التصريح، والموقف هو تأييد لذلك الموقف.
تعجب الصحابة أهل الإيمان واليقين وأهل العزة والقوة فقالوا: من يا رسول الله؟! اليهود والنصارى؟ فما زاد سيد الخلق على أن قال: (فمن) أي: من غيرهم؟ ألسنا نرى اليوم ذلك؟ {وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]، {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة:9]، أرادوا أن يأخذوا بدل منهج القرآن والاستمساك به شئوناً دولية وعولمةً عالمية، ومعاهدات واتفاقات ومنظمات لا تغني من الله شيئاً، وكلها لا تساوي حرفاً من كتاب الله عز وجل، ومع ذلك تقدم عليه وينظر إليها ويتعلق بها وتشترى ويستبدل القرآن بها.
تأمل هذا المعنى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ} [الأعراف:169] تتكرر المساومات وتتعدد الجولات، وفي كل مرة تزداد مبادرات، والأمر سائر: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]، هاتوا ما عندكم، قولوا ما لديكم، خطوا الطريق ونحن نسير، ارسموا ونحن نطبق كأن حالنا يصف هذا المعنى تماماً: {أََلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169]، أليسوا يقولون اليوم: إن هذا الذي يفعلونه لا أقول فيه: إنهم يقولون: لا يتعارض مع الإسلام بل يقولون هو روح الإسلام، إسلامنا دين المحبة والسلام، إسلامنا دين المودة والوئام، إسلامنا دين الجسور المبنية، والصلات الممدودة، إسلامنا لا يميز بين عقيدة وعقيدة، إسلامنا لا يفرق بين دين ودين، إسلامنا لا يجعل مزيةً لملة على ملة.
وأين ذلك من كتاب الله؟ وأين هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عندما نقول: إن ثمة كنوزاً وخيرات فثمة صدود وجحود، وثمة إعراض وإنكار، فينبغي لنا معه أن نقر به وأن ننظر إليه، وأن نتأمل فيه، وأن نصحح موقفنا منه لنبرأ ونبرأ ذمتنا أمام الله جل وعلا؛ فإن كل واحد مسئول بقدر ما عنده من قدرة وطاقة: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم أوجز فقال (ولكن من رضي وتابع) لا تقل: ليس لي في هذا يد، وليس لي به شأن، وليست لي فيه قدرة أقل الأمور أن تكون من أمرك على بصيرة، ومن دينك على بينة، وأن تقول الحق، وأن تدخل في عموم قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170]، وزيادة المبنى دليل على زيادة المعنى، لم يقل: (يُمْسِكُون) بل: {يُمَسِّكُونَ} [الأعراف:170] أي: يحرصون أشد الحرص، ويتشبثون أقوى التشبث بكتاب الله، لا يحيدون عنه وإن حادت الدنيا كلها، ولا يغيرون نهجه وإن تعددت المناهج والآراء مهما كان الأمر، كما كان على ذلك صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وكما شهدت اللحظات الأخيرة من حياة عدد وافر منهم يوم قال أنس بن النضر في يوم أحد: (واه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد