أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الخسارة الكبرى موضوع حديثنا، فيا ترى ما هي الخسارة الكبرى، والبلية العظمى، والحسرة الجُلىّ، التي ينبغي أن تبكي قلوبنا عليها دماً، وأن تفيض دموعنا لأجلها دمعاً، هل هي الأموال التي قد تسترق، أو الأرض التي قد تغتصب، أم هي الأحباب والأعزاء الذين يغادرون الحياة الدنيا؟! هل هي في المناصب والجاه الذي قد يضيع منه ذا أو ذاك؟! ما عسى أن تكون هذه الخسارة؟ بفقه الإيمان، ومقياس الإسلام، ومعرفة الأكياس، إن المقاييس اليوم قد اختلت، الموازين وقد انتكست، أصبحت مثل هذه المعاني لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأما من يستشعرها فأقل من القليل.
أية خسارة هذه التي نصفها بالكبرى، والتي ينبغي أن يطول عليها أسفنا، وأن يعظم عليها ندمنا؟ إنها موت القلوب وفقدان الإحساس، وذهاب الشعور الإيماني الذي يحرك القلوب إذا سمعت الآيات، وإذا أصغت للمواعظ، الذي يعصر القلوب ألماً، والنفوس حزناً، إذا قارفت المعاصي التي تجعل في النفس هماً، وفي الحلق غصة، وفي العين عبرة إذا تخلفت عن الطاعات، الذي يجعل المؤمن مشغولاً بنفسه، مصلحاً لعيبها، خائفاً من ذنبها، مجتهداً في حملها على أمر ربها.
ولعلي أصور هذه الخسارة في واقع لا يكاد يبرأ منه أحد، كبيراً كان أو صغيراً، عالماً أو متعلماً، حتى الأئمة والمصلحون، والدعاة والمذكرون والواعظون، ذلك أن هذا البلاء قد عم وطم.
لعلنا نصور هذه الخسارة ونحن نقول: كم من آيات القرآن تتلى فلا قلب يرق، ولا عين تدمع! كم من منكرات تراها الأعين، وتسمعها الأذان، فلا يضيق صدر، ولا يتمعر وجه! كم من الطاعات مهدورة متروكة وليس هناك مذكر ولا واعظ، ولا شاحذ للهمم إليها! كم من الواجبات لم ينتبه إليها أحد أو يؤديها والنفوس مع ذلك راضية سعيدة كأن شيئاً لم يحدث! كم من صلاة ضيعت! كم من فريضة وسنة أميتت! كم من بدع ظهرت ورفعت راياتها! كم وكم من أمور كثيرة! فتش قلبك وراجع نفسك، هل ثمة تأثر وتغير بحسب هذه الأحوال التي تتغير من حولنا، أم أننا قد ألفنا المعاصي فلم تعد القلوب تنكرها، وركنا إلى الدنيا فلم تعد النفوس تنبعث إلى الطاعات، ونظرنا إلى الملهيات والمغريات فلم يعد في النفس والقلب شيء تتعلق به إلا إياها؟!