الإصلاح من الذي يؤهل له؟ ومن الذي ينبعث إليه ويندب إليه؟ أول الإصلاح ومبدؤه هو الإيمان بالله عز وجل، والاستسلام لحكمه وشرعه، فنحن نوقن أنه لا صلاح ولا إصلاح لأحوال الخلق أجمعين ولأحوال المسلمين بخاصة إلا من منطلق الإيمان وحكم الإسلام، وغير ذلك لا بد أن يكون فيه قصور ونقص واضطراب واختلاف؛ لأن الله جل وعلا هو خالق الخلق، وهو العالم بما يصلح شئونهم {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، ومنطلق الإيمان هو أول هذه المنطلقات وأساسها: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48]، ولو مضيت وتأملت آيات القرآن لوجدتها تربط بين الإيمان والإصلاح، وتجعل الإيمان مقدمة له، وتجعله سابقاً عليه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بغير المنطلق الإيماني والمنهج الإسلامي {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35] لا ينبعث إلى الإصلاح إلا من اتقى الله وعمر قلبه بخشيته وتقواه؛ لأن ذلك عاصم له بإذن الله من أن يخوض فيما لا ينبغي الخوض فيه، وأن يقترف ما يحرم وما يحول بينه وبين التحقق بتقوى الله جل وعلا، ثم إننا كذلك نلمح الأمر في كلتا الآيتين بذكر الرسل والأنبياء قبل ذكر الإصلاح، وذلك فيه إشارة إلى منطلق مهم، وهو أن المنطلق للإصلاح مع الإيمان والتقوى هو اتباع الرسل والأنبياء صفوة الله من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فنحن هنا نقرأ قوله جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165]، ثم يأتينا من بعد {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام:48]، ويأتينا كذلك {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} [الأعراف:35]، وأظهر من ذلك -أيضاً- ما كان بين موسى وهارون عليهما السلام عندما عهد موسى إلى أخيه قائلاً: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].
إن السير على آثار النبوة واقتفاء منهج السنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمة من كل فتنة، وأمان من كل خوف، وحق لا يداخله -بإذن الله عز وجل- شيء من الباطل، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبصرنا فيقول: (العلماء ورثة الأنبياء) والوارث إنما يأخذ إرثه ممن ورثه، فلا حظ ولا نصيب ولا شيء عند أهل العلم إلا ميراث النبوة، مما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي سنته وفي سيرته وفي هديه الذي تمثل في سائر جوانب الحياة، سلم وحرب، حل وسفر، مع الأصدقاء ومع الأعداء، في كل جانب من جوانب الحياة لنا من سنته هدي، ولنا في سيرته بصيرة صلى الله عليه وسلم، انظر إلى تأكيده وبيانه لهذا الأمر، فعندما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ فقال معاذ: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: في ضوء كتاب الله وسنته-.
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) إنه المنهج الذي لا بد منه لكل آخذ بسياسة الناس، أو عامل في مجال إصلاحهم، أو ساع في تبصيرهم ودعوتهم، ثم هاهو صلى الله عليه وسلم -أيضاً- في وصيته لـ معاذ يبصره ويبين له المنهج، ويعطيه المفاتيح التي يصل بها إلى الغاية ويحقق النجاح، يقول له عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) وهكذا نجد هذا المنهج في منطلقات الإصلاح بيناً واضحاً، أساسه الإيمان، وحكمه وضابطه الإسلام، وحاديه تقوى الله سبحانه وتعالى، وإمامه اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أراد إصلاحاً فهذا هو المنطلق.